عمار الكوفي – خاص الناشر |
(المقصود من الحالة الإسلامية هي حالة التشيع السياسي التي برزت مع ظهور المقاومة الإسلامية وحزب الله.)
لا يخفى على متابع أن العنوان يحمل إشكالية معقدة بين عدة مستويات لا زالت من أكثر المواضيع حدة في النقاش في بيئة الحالة الإسلامية في لبنان متمثلة بجمهور”مؤسستها” الأبرز، أعني حزب الله.
في الأسطر التالية سأتعرض لأبرز الأفكار التي دارت في مدار هذه الإشكالية من خلال الإطلالة بشكل سريع على جوانب عدة،
لا تقدم حلولًا، بقدر ما هي استعراض لجوانب المسألة وحيثياتها.
تنتمي الإشكالية إلى سياق قضايا المرأة التي تدرس في الاجتماع الإسلامي، لا سيما في الحقبة الأخيرة، التي أولى فيها قائد الثورة الإسلامية اهتمامًا بالغًا بهذه القضايا، ووجّه الأطر الأكاديمية والحوزوية لصب الجهد وإنتاج مجهود نظري خاص يعالجها ويقدم رؤية الإسلام لها ويحول تلك الرؤية لقوانين وتشريعات وإجراءات عملية يتم تنفيذها على مستوى الجمهورية الإسلامية. وكان من أبرز المؤتمرات التي رعاها القائد في هذا المجال المؤتمر الاستراتيجي الثالث لقضايا المرأة والأسرة عام ٢٠١٢.
تختلف المعالجة في هذه الأسطر من حيثية الزمان والمكان، فالمكان هو لبنان المتنوع طائفيًّا وثقافيًّا بشكل فاقع، وكما تنوع طبيعة لبنان المناخية التي تخوّله احتواء فصلي الصيف والشتاء في نفس الوقت، كذلك تكوينه الاجتماعي المختلف حد التناقض ثقافيًّا، يفصح عن نفسه وحده، فمثلًا لك أن ترى في الجامعة على نفس المقعد الدراسي فتاة بلباس العباءة الزينبية الأسود الطويل والفضفاض وإلى جانبها مباشرة فتاة ترتدي الملابس القصيرة التي تكشف مساحات من جسدها، في محاكاة واقعية لسرعة الانتقال في لبنان بين فصلي الشتاء والصيف، في نفس اليوم، في مشهد ينسحب على متناقضات كثيرة يعرفها اللبنانيون. والزمان هو زمان ما بعد الثورة الإسلامية في إيران، زمان تقديم نموذج ولاية الفقيه الإسلامي أو ما يعبر عنه بالإسلام المحمدي الأصيل الذي تأخذ منه الحالة الإسلامية في لبنان كمتلقية للصورة ومتّبعة لعدة موائز أهمها أن حضانة النموذج الأصلي وريادته هي في إيران، وهو الإسلام الذي قدم الإجابات عن شتى القضايا وطرح رؤاه في شتى المجالات وكانت المرأة في ثورته ومن ثم دولته مدماكًا أساسيًّا.
استعراض القضية مع حيثية الزمان والمكان يقودنا بدوره إلى عدة أفكار ناتجة عنه؛ فالاختلاف الثقافي والظرف الزماني الموجودان أنتجا حالتين في قضية المرأة الشيعية لا تزالان موجودتين معاً لكن مع تضاؤل واحدة أمام أخرى، هما حالتا الإقدام والإحجام، إذ أمام الثقافة الأخرى من ناحية والتأثر أيضًا بما يصلنا ويردنا من الجمهورية الإسلامية وبين الممارسة المنطلقة من التراث الذاتي للجماعة المتراكم من خلال فهمها للنص الديني وتقاليدها وعاداتها، بقيت قضية المرأة في هذه البيئة لفترات طويلة متمسكة بإحجامها بطريقة دفاعية (وهنا لا أتكلم عما يقدمه الدين من أطروحة أصيلة بل أوصّف ممارسة الجماعة). وكان لهذه السياسة الدفاعية مبرراتها العقلية والشرعية. من جهة ثانية الحالة الأخرى هي حالة الإقدام، الإقدام الهجومي ثقافيًّا اذا صح التعبير والذي حملته الحقبة الأخيرة، إقدام يطرح قضية المرأة المسلمة استنادًا إلى النموذج الإيراني المتقدم على غيره في البيئة الإسلامية الشيعية.
الحالتان موجودتان معاً اليوم، ومتصارعتان أيضاً في نفس البيئة، لا بين البيئة وخارجها في واحد من التحديات الاجتماعية الصعبة التي نواجهها لكثرة متعلقاتها التي تبدأ بتحديد أولويات الدور والمخاطر ولا تنتهي برأي الرجل وتقبله للجديد في هذا المضمار، خصوصًا مع خلط الرجل بشكل عام ومن خلفه ما يمثله ضمن الجماعة للنفسي مع الديني، للعاداتي مع الشرعي، بلحاظ أيضًا أن مدار المرأة الأساسي في الاجتماع الإسلامي لا ينفك عن الرجل كما لا ينفك مدار الرجل عنها لاشتراكهما في مساحة الأسرة ومركزيتها في هذه المنظومة.
الآراء المتضاربة التي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي تجاه صورة صبيّة محجبة أو ظهور محجبة في نشاط عام أو مشاركة محجبة بعمل فني تنبئ بوجود شرخ على مستوى النموذج والرؤية في المجتمع الواحد في واحدة من القضايا التي تمس بأمنه الاجتماعي. من هي المرأة المسلمة “الجيدة.. المثالية.. النموذج..”؟ الإجابات التي تقدم على مستوى البيئة والشارع لا تَوافق بينها، فبين من يعتبر أن ميزة المرأة بقاؤها في بيتها وعدم ظهورها أمام رجل، وبين من يعتقد أن للمرآة تكليفًا يلزمها بالحراك الاجتماعي والسياسي، خلاف يصل إلى حد التناقض
وتتطور السجالات على إثر ظهور أخت منتمية للبيئة الملتزمة وفي بعض الأحيان تصل لعلماء دين منهم من يستنكر ومنهم من يؤيد في دلالة واضحة على وجود رؤيتين تحكمان الإشكالية، وفي كل مرة تفصح البيئة عن تعطشها لرؤية نموذج نسائي ملتزم ومنضبط.
للعمل الإعلامي والفني هنا نقطتان مضافتان تجعلان له خصوصية متقدمة، الأولى، موضوعية، مختصة بمضمار تقديم النموذج، فالإعلام متصدر في إظهار النموذج، والأخرى ذاتية متعلقة بخصوصية “ظهور المرأة” في المخيال الشيعي النمطي، زائدًا عن وجودها في ميدان العمل، أي إن ساحة تقديم هذا النموذج هي ساحة الظهور لا الخفاء، مما يفاقم من التحدي أكثر.
إجمالًا، نموذج واحد مطلوب وملحّ جدًّا، نموذج نسائي منجز وفاعل، هو موجود حقيقةً لأن الرجل المقاوم الذي أنتجته الحالة الإسلامية في لبنان، صاحب القضية المبدع والمميز الممتلك لذهن خلاق، لم يكن خلال أكثر من ثلاثين عامًا إلا شريكًا لامرأة مقاومة. رباب الحسن كانت أيقونة إيمانية مقاومة ظهرت بصوتها الذي يعتبره البعض عورة. أخواتها من الإعلاميات المجاهدات والمدرسات في الجامعات هنّ نماذج ظهرن بصوتهن ووجوههن وكنّ قمة بالعفة والالتزام والهداية والتميز، وأخريات أيضًا كنّ في الظل يمارسن دورهن وتكليفهن إن كان في عمل جهادي أو في رعاية أسرهن من دون أن يظهرن، ونلن مراتب عالية وصلت للشهادة وآخرهن كانت الشهيدة مريم فرحات.
آن الأوان لأن تظهر هذه المرأة في ميدان حرب النماذج بشكل أكبر مما ظهرت فيه خلال السنوات الماضية في حالات لم تتكاثر، أو لم نشهد تكاثرها، أولًا لأن ميدان اليوم يفرض ذلك، وثانيًا لأن هذه المرأة بما تحمله من مؤهلات تستحق ذلك.
لم تقدم المؤسسة خطابًا ثقافيًّا نسائيًّا خاصًّا، ولا مخاطبين أيضًا، إلا ما ندر، واقتصر تأهيل المرأة على معاهد دينية تتخذ طابعًا خاصًّا لا يستطيع استيعاب فكرة أن أهل المقاومة أصبحوا شرائح واسعة لا تنحسر ضمن مجموعات ضيقة. بالمقابل،
ما هي مؤثرية اختلاف الثقافات لبنانيًّا على قضية المرأة على مستوى التلاقح البينيّ؟ كيف تنتج صورة المرأة ووظيفتها في لبنان في مخيال الإسلامي الشيعي؟ ما علاقة كربلاء بذلك، والشعر الحسيني، خصوصًا العراقي منه؟ وما هي التحديات التي يواجهها هذا المخيال؟ وكيف يتلقى العقل الجمعي الشيعي في لبنان النموذج الأصلي المنطلق من إيران؟ وهل يستطيع تلقيه؟ وما هو خطاب المؤسسة الشيعية في لبنان تجاه المرأة؟ ومن هم مخاطبوها؟ وكيف يمكن إنتاج النموذج المتوازن المطلوب؟ جميعها أسئلة تفرض نفسها يجب معالجتها من قبل المعنيين في البيئة من علماء دين وخبراء ومثقفين بشجاعة وتحمل مسؤولية. لا الوقوف على التل مجدٍ، ولا الوقوف كشجرة صلبة بوجه ريح عاتية مُجدٍ، المجدي هو ثقافة المواجهة بطرح النموذج بشجاعة، نموذج إسلامي مدعوم وموجه وأصيل في مسار أصبح لا بد منه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.