نعلم أن هذا المقال قد يصطدم بعواطف الكثيرين ممن يحبون الوزير المستقيل جورج قرداحي، ولكن الغرض ليس مخالفة حالة عامة من الحب للأستاذ جورج، كما أن الغرض ليس مهاجمته أو انتقاده، ولكن الغرض هو معالجة ما نراه خللًا كبيرًا قد أصاب تناول القضية، وخاصة عقب الاستقالة وما رافقها من تبريرات بل وإشادة بها، وادعاء أنها تصب في الصالح أو أنها تشكل إحراجًا للسعودية.
وقبل الخوض في ما نود قوله ينبغي التأكيد على عدة نقاط:
1- هذا المقال ليس ردًّا على أحد بعينه، وخاصة أن كثيرًا من الزملاء قد كتبوا، وقد ينال ما كتبوه بعض النقد، وبالتالي ينبغي التأكيد على أن المقال ليس ردًّا على شخوصهم المحترمة أو مقالاتهم.
2- هذا المقال لا يتعلق بشخصية الأستاذ جورج قرداحي، بل يفصل بين كونه إعلاميًّا ناجحًا له حضور وقبول، وبين مواقف كثيرة له تستحق الإشادة والاحترام، وبين خطوته الأخيرة في الاستقالة وبيان ضررها السياسي.
3- كان يمكن تمرير الحالة الراهنة دون الخوض في جدالات لو أنها قضية عابرة، وكان يمكن التجاوز عنها من منطلق فقه الأولويات، لو كانت قراءتنا لها أنها قضية هامشية، ولكن لأن قراءتنا أنها خلل من النوع الكبير والخطير، فقد حملنا على عاتقنا التصدي لها ولو كلفنا ذلك بعض الانتقادات أو الاتهامات بالمبالغة، أو كلفنا خلافًا لا نتحمله وجدانيًّا مع رفاق المقاومة، ولكن المسؤولية تحتم علينا الإدلاء بما نراه خاطئًا، بل وخطيرًا.
وباختصار، وبشكل مباشر، فإن الاستقالة شكلت ضررًا كبيرًا ونكسة للكرامة اللبنانية ولكرامة كل حر ومناهض للتبعية والارتهان داخل لبنان أو خارجه، وشكل التعاطف معها أو تبريرها انحرافًا عن الخط المقاوم وصرامته، ونراه أول الوهن، حيث المضيّ في مساره قد يشكل ارتدادًا عن المقاومة وثوابتها، دون أدنى تهويل أو مبالغة، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: موقف الوزير قرداحي تحول من كونه موقفًا شخصيًا مشرفًا يحسب له، إلى موقف وطني لبناني، بل وموقف لجميع الأحرار بمجرد افتعال الأزمة السعودية مع بلد كامل على خلفية رأي شخصي، وليس رسميًّا لوزير، قبل أن يتم تنصيبه، وبالتالي حمل جورج رغمًا عنه أشواق الأحرار في التحرر من المذلة وحمل على عاتقه كرامة بلد، وتحول الأمر من قرار شخصي إلى مسؤولية وطنية، وتحولت الاستقالة من نطاق القرار الفردي إلى نطاق أبعد بحجم التأييد والصور المرفوعة له في ميادين الكرامة في صنعاء وعلى صفحات أنصار المقاومة.
وبالتالي، فإن الاستقالة هي خذلان وإعلان للاستسلام أمام ضغوط المرتزقة والخانعين، وترسل رسائل سلبية بأنه لا فائدة من المقاومة، وأن الضغوط المذلة تنتصر في نهاية المطاف.
ثانيًا: التبرير المصاحب للاستقالة بأنها للصالح العام وتفضيل لمصلحة لبنان على المنصب، هو تبرير أقل ما يقال فيه إنه سخيف ومهين، لأن ترجمته المباشرة، هي أن مصلحة البلاد تعني الاستسلام والمذلة، وإنه لا مكان للشرفاء والرافضين للمذلة في حكومات البلدان التي تبحث عن مصالحها!.
ثالثًا: التبرير المصاحب للاستقالة بأنها تسد الذرائع وتحرج السعودية وتكشف افتعالها للأزمة، هو تبرير فيه خلل في تناول القضية وجوهرها، لأن أصل القضية هو الصراع بين معسكر الهيمنة وبين معسكر الرفض والصمود، وهو صراع يتميز بأن أوراقه مكشوفة، حيث لا تنتظر السعودية كشفًا لأوراقها أو لإجرامها السياسي، فهي تلعب على المكشوف، وتقوم برشوة القوى الكبرى والمؤسسات الدولية والحكومات التي تتواطأ معها، دون خجل، وبالتالي لن تقدم الاستقالة جديدًا.
كما أن السعودية، وفي تصريحات رسمية، كشفت أن عقدتها في لبنان هي حزب الله، وهو اعتراف بأن قضية الوزير ليست هي الأصل، فكيف يأتي من معسكر المقاومة من يبرر الاستقالة بأنها كشف أو إحراج ليخرج بالقضية عن أصلها؟ وبالتالي فإن المعركة كانت مكشوفة، وعليه فإن الاستقالة كانت رفعًا للراية البيضاء واستسلامًا مهينًا.
رابعًا: الإشادة بتأخر الاستقالة، وبأن الوزير لم يعتذر، هي إشادة قد تكون صحيحة على المستوى الشخصي، ولكنها في غير محلها على المستوى السياسي، لأن العائد السياسي صفري، فلا فرق بين استقالة مبكرة أو متأخرة، لأنها في كلتا الحالتين إذعان، ولا فارق بين اعتذار من عدمه، لأن الاستسلام أعظم كثيرًا من الاعتذار في المجال السياسي وفي مجال الصراعات، حيث الاعتذارات قد تترافق مع التسويات أو المناورات أو توازن القوى، بينما الاستسلام هو إعلان للهزيمة والمذلة.
الترجمة المباشرة لهذه الاستقالة هي أنه لم يعد مسموحًا لوزير أو مسؤول لبناني أن يخالف المملكة أو ينتقدها حتى ولو بصفة شخصية، حتى لا يخرج بلد بكامله من رحمة المملكة!
وهنا يأتي دور المقاومة وأنصارها، وهو سر انتقادنا لحالة عامة مبررة، بل ومارست الإشادة وافتعلت المبررات:
أولًا: المقاومة لم تكن طرفًا مباشرًا في المعركة، وإن كانت الطرف الرئيسي المستهدف سعوديًّا، واقتصر دورها على تحية الوزير ومساندته ودعمها له في حال استمر على صموده أمام الضغوط.
أما وأن يستسلم للضغوط، فلا معنى لمساندة القرار أو الإشادة به لأنه لا يعكس موقف المقاومة ولا رؤيتها، بل يعد خذلانًا لها. كما أن أي إشادة قد تعطي وجاهة للدعايات الكاذبة والمغرضة التي تحاول الإيحاء بتنسيق بين المقاومة والحكومة أو صفقة ما عقدتها المقاومة في مقابل الاستقالة، وبالتالي فإن حالة التأييد والإشادة تضر سياسيًّا وتساعد الدعايات المعادية.
ثانيًا: الاندفاع العاطفي المبالغ به والقول من قطاعات كبيرة من أنصار المقاومة إن “جورج يمثلني”، فيهما مجازفات غير محسوبة، لأن موقف المقاومة ليس هو موقف جورج، حيث لا تعتبر المقاومة أن الحرب في اليمن حرب عبثية، بل تعتبرها عدوانًا إجراميًّا مدعومًا من أميركا والعدو الصهيوني، وبالتالي فإن أنصار المقاومة يحسبون أنفسهم على موقف أوهنَ كثيرًا من موقفهم وثوابتهم.
كما أن جورج يعلن محبته للإمارات وللسعودية ولنظاميهما ويطرح أنه مختلف معهم فقط في تقييمه للحرب، فهل هذا ما يمثل المقاومة وأنصارها؟!
ثالثًا: اعتياد أنصار المقاومة على تقديم المبررات هو وهن وانحراف عن ثوابت المقاومة التي لا تهادن في الحق، كما أنه شعور غير حميد بالضعف وتضخيم في قوة الخليج لا يعكس ميزان القوة الحقيقي الذي شكلته المقاومة بصمودها وتضحياتها.
ما نقوله باختصار، إن هذه الأزمة كشفت بعض مواطن الخلل في تناول القضايا، وهو ما يتطلب وقفة ومراجعة ومزيدًا من الثقة ومزيدًا من التمسك بالثوابت لأن قادم الأيام يتطلب الثبات والوضوح والصرامة والجدية، حيث إننا مقبلون على معارك كبرى لا تليق بها هذه الميوعة السياسية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.