تحاول بكين، ومعها العالم، تلمّس ملامح السياسة الخارجية الأميركية وسبر أغوار مقاربة الملفات الساخنة في جوارها الإقليمي، بخاصة تايوان، التي حظيت وتحظى بعناية خاصة من جانب الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدار العقود الأربعة الماضية، وذلك بموجب التزامات صادرة عن السلطات في واشنطن كقانون العلاقات مع تايوان TRA، الصادر عام 1978، والذي يكفل لواشنطن الحق في إقامة علاقات ثقافية، وتجارية وأشكال أخرى من العلاقات ذات الطابع غير الرسمي، وما يعرف بـ “التأكيدات الستة” Six Assurances الصادرة في عهد الرئيس رونالد ريغان في العام 1982، والمتمحورة أساساً حول الحفاظ على مبيعات الأسلحة الأميركية لدعم الحكومة التايوانية، ورفض المس بسيادة تايوان، أو تغيير القوانين الأميركية ذات الصلة. فيما الأنظار اليوم تتجه إلى الإدارة الجديدة في عهد جو بايدن، الذي خلف أحد أكثر الرؤساء الأميركيين مشاكسة للصينيين بلا منازع.
وعن مقاربة إدارة بايدن لملف الجزيرة، والتي ينظر القادة الصينيون إلى مسألة انفصالها بحكم الأمر الواقع على أنه ثمرة الاستعمار الجائر لأجزاء من البلد الآسيوي الكبير، بداية على يد اليابانيين في العام 1895، ومن ثم على يد الأسطول الأميركي السابع الذي منع القوات التابعة للصين الشيوعية من السيطرة على الجزيرة، يحذر البعض من النهج الخطر الذي تسير عليه الإدارة الأميركية الجديدة على وقع سيرها في ركب الإدارة السابقة، التي أقدمت على سلسلة إجراءات تخالف مبدأ “الصين الواحدة” الذي قامت عليه العلاقات الأميركية – الصينية منذ العام 1978، أبرزها محاولات تدشين قنوات تواصل رسمية بين الجانبين، وعودة الحديث عن انتشار قوات أميركية في ذلك البلد، علمًا أن التفاهمات الصينية- الأميركية حول “فرموزا”، الاسم الآخر لتايوان، لا تتضمن تعهدًا أميركيًا صريحًا بإرسال قوات عسكرية للدفاع عنها. فالمبدأ المذكور أوجد تفاهمًا ضمنيًا يقوم على عدم اعتراف الجانب الأميركي باستقلال تايوان، في مقابل عدول الجانب الصيني عن اجتياح الجزيرة وغزوها بالقوة.
ظلل شغل بايدن منصب نائب الرئيس خلال حقبة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، التكهنات بشأن سياساته الجديدة، خصوصًا وأن فريق عمل إدارته ضم عددًا من وجوه الإدارة السابقة، أبرزهم وزير الخارجية أنتوني بلنكين الذي عمل نائبًا لمستشار الأمن القومي، ونائبًا لوزير الخارجية خلال حقبة أوباما، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، وهو المنصب نفسه الذي شغله بين عامي 2013 و 2014، إلى جانب المبعوث الديبلوماسي لشؤون التغير المناخي جون كيري، الذي كان وزيرًا للخارجية خلال تلك الحقبة. هذا، ووفق بعض التقديرات، فإن المسار الذي سيسلكه بايدن في عهده حيال الصين سيجمع بين نهج ترامب “المتشدد”، ونهج أوباما “شديد الحذر” في التعاطي مع المسائل الاستراتيجية بين واشنطن، وبكين.
على هذا الأساس، رأت مجلة “ذي إيكونوميست” أن بايدن سيسلك طريقًا مغايرًا لسلفه في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، والمناخ، ذلك أنه سيبدي صلابة أكثر في الأولى، ومرونة أكبر في الثانية. أما وقد أيدت الإدارة الديمقراطية الجديدة الإبقاء على التعرفات الجمركية ضد واردات الولايات المتحدة من البضائع الصينية، شأنها شأن الخطوات التصعيدية في ملف تايوان، كالسماح بتبادل زيارات رسمية بين واشنطن وتايبه، التي زارها وزير الصحة الأميركي في أغسطس الماضي في عهد ترامب، بصفته أرفع مسؤول رسمي أميركي يزور الجزيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو خطوة عززتها إدارة الرئيس الحالي لدى استقبال بايدن وفدًا رسميًا تايوانيًا للتهنئة بانتخابه، ليصبح أول رئيس يلتقي مسؤولًا تايوانيًا منذ العام 1978، قبل أن تعلن الأخيرة في نيسان/أبريل الفائت عن سعيها لتخفيف القيود التي تحول دون التواصل الرسمي بين المسؤولين الأميركيين والتايوانيين. فقد رجّحت المجلة أن يعمد بايدن إلى توظيف تلك التدابير والإجراءات في مقايضة قادة الصين للتوصل إلى تفاهمات جديدة في مسائل التجارة، والأمن، والمناخ وغيرها.
في مقابل ذلك، يذهب البعض إلى أن إدارة بايدن ستحافظ على الخط البياني التصاعدي في إدارة علاقاتها بالصين، الذي ورثته من ترامب، إن لم يكن سينحو باتجاه التفجير في حال مضت واشنطن في استفزاز بكين في مضيق تايوان. من هذا المنطلق، لجأت الصين خلال الفترة الأخيرة من عهد الرئيس ترامب، وعقب انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة إلى زيادة طلعاتها الجوية العسكرية عبر المضيق، في أكثر من مناسبة. الحدث الأبرز جاء في الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري حين حلقت 56 طائرة داخل منطقة الدفاع الجوي التابعة لتايوان، أتبعتها بتحليق 111 طائرة على مدى ثلاثة أيام، وهو ما عد أكبر طلعة جوية للطيران الحربي الصيني في تلك المنطقة على الإطلاق، وذلك كنوع من الإشارة التحذيرية لبايدن، الذي صرّح قبل أيام بأن واشنطن سوف تدافع عن تايوان بحال تعرضها إلى هجوم من الصين. وعلى وقع تصاعد دعوات من داخل الإدارة وخارجها، من أجل حث واشنطن على التعهد بالدفاع عن تايوان، بـ “صورة رسمية أوثق”، ينذر البعض من أن ذلك سوف يعد تخليًا عن الخط التاريخي للسياسة الأميركية تجاه حليفتها الآسيوية، والقائمة على مبدأ “الغموض الاستراتيجي”.
سريعًا، عكفت وسائل الإعلام الصينية على شرح أهداف القيادة الصينية من خلف تلك الإجراءات من خلال التشديد على أن رفض تايوان القبول بالسيادة الصينية، بالوسائل السلمية، قد يترتب عليه عمل عسكري، وذلك بموجب قانون صيني صادر في العام 2005، واصفة حركة سلاح الجو الصيني بإجراء تدريبي على “هجوم جوي في حالة الحرب”. إلى ذلك، أشاعت وسائل إعلام تهديد أحد الجنرالات الصينيين المتقاعدين من أن الدولة الشيوعية ربما تكون قادرة على البدء باجتياح واسع النطاق للجارة الصغيرة، بحلول العام 2025 بتكلفة “يمكن تحملها” من قبل قيادة الحزب.
وفي السياق عينه، يتخوف بعض المحللين الأميركيين، مثل فريد زكريا، من أن الولايات المتحدة لا تملك لا القدرة، ولا الإرادة للتكفل بمثل هذه المهمة. ويرتكز زكريا في استنتاجه هذا إلى خلاصة تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأميركية بشأن إجرائها تقييمًا افتراضيًا لمواجهة عسكرية بين الصين والولايات المتحدة على أرض تايوان عبر تقنيات المحاكاة، لتكون النتيجة انتصار ساحق للصين على مدى 18 جولة دون تسجيل أي فوز لحساب الأميركيين. والأسباب التي تبين تلك النتيجة واضحة، سواء لناحية العامل الجغرافي والعسكري، أو لناحية العامل السياسي؛
فتايوان تبعد 100 ميل عن البر الرئيسي للصين، فيما تبعد القواعد العسكرية الأميركية في هونولولو 5000 ميل، فيما تربض الطائرات الحربية الصينية في 39 قاعدة جوية ضمن نطاق لا يتعدى 500 ميل من “الجزيرة المتمردة” كما يراها الصينيون، فيما تنتشر قواعد الصواريخ المضادة للسفن على امتداد الساحل الصيني، ما يعرقل أي عمل عسكري محتمل من قبل أميركا. “سيناريو الرعب الكارثي”، المشار إليه، يشرحه الباحث الأميركي كريستيان بروز حين يتحدث عن أن “شبكة التحكم والسيطرة التي تنتقل من خلالها المعلومات الحساسة إلى القوات الأميركية على أرض المعركة، سوف يتم شلها وتشتيتها عبر هجمات إلكترونية” في المرحلة الأولى لدى وقوع حرب بين العملاقين بدافع السيطرة على تايوان. ويتابع بروز، وهو مدير شؤون الموظفين السابق في لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، ضمن كتابه المعنون: “سلسلة القتل: الدفاع عن أميركا في حروب التكنولوجيا العالية في المستقبل”، أن “ما يجعل المسألة أكثر سوءًا هو أن القواعد الأميركية في اليابان وجزيرة غوام، سوف تكون تحت وابل من الصواريخ البالستية الدقيقة، والصواريخ الجوالة، فيما ستقبع حاملات الطائرات الأميركية تحت خطر داهم من الصواريخ الصينية (المضادة للسفن)، والتي يطلق عليها اسم “مدمر حاملات الطائرات”. من جهته، يتخوف المحلل السابق للشؤون الصينية لدى القيادة الأميركية لمنطقة المحيط الهادىء، من الخسائر الأميركية في العديد والعتاد في هذه الحالة “قد تكون صادمة، ومروعة”، فيما يحذّر كلٌّ من السفير السابق لدى بكين ستابليتون روي، والمترجم الأول للرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون تشاس فريمان من أن النزاع الأميركي – الصيني على خلفية الوضع في تايوان، “ينذر باندلاع حرب نووية”.
أما عن العامل السياسي، والذي قد يعد بدوره رادعًا لتصلب الإدارة الأميركية في “خياراتها التايوانية”، فيتمثل بعدم احتلال الوضع في الجزيرة مرتبة ضمن المراتب السبع الأولى لاهتمامات الناخب الأميركي، وفق استطلاعات تعود إلى العام 2017، خلافًا لكونها “القضية رقم واحد” على سلم اهتمامات الشعب الصيني. كما تظهر بيانات حديثة وردت في تقرير صادر عن “مجلس شيكاغو للشؤون الدولية”، أن ما نسبته 85 في المئة من قادة الحزب الجمهوري يؤيدون إرسال قوات عسكرية أميركية للدفاع عن تايوان، فيما نسبة تأييد هذا الإجراء تهبط إلى 43 في المئة فقط لدى أفراد القاعدة الشعبية للحزب المذكور.
تلفت صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى أن سياسة بايدن في تايوان “تزيد بصورة جوهرية احتمالات وقوع حرب عالمية”. وللدلالة على خطورة انزلاق العلاقات بين واشنطن وبكين إلى ما لا تحمد عقباه، تنقل عن الأستاذ في العلوم السياسية غراهام أليسون قوله إنه “ما من مسؤول أمن قومي صيني قابلته، أو مسؤول أميركي التقيته على الإطلاق، اختبر وضعية مماثلة (لواقع هذه العلاقات)”، مشددًا على أن “الصين قد تختار الخوض في حرب، على حساب خسارتها لمنطقة تعتبرها ذات قيمة أساسية لمصالحها القومية”.
أمام تضارب المعطيات المحدقة بآفاق العلاقات الأميركية- الصينية، وانفتاح الوضع في تايوان على فعل أميركي محتمل، يعيد إلى الأذهان “السيناريو الأوكراني”، وردّ صيني محسوم يذكّر بحرمة المس بقواعد اللعبة بين العملاقين في شرق آسيا، عمومًا، والجزيرة “العقدة” خصوصًا، يبقى السؤال: “هل يمكن أن ينحو جو بايدن باتجاه الحرب، ليمنع غزوًا صينيًا لتايوان؟”، وفق “ناشونال انترست”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.