بَنت السعودية منذ زمن بعيد سياستها في لبنان على السنّة مستغلة ما تمثله المملكة للمسلمين دينيًا، فكانوا ينفذون سياساتها بشكل أساسي في حقبة السنية السياسية. لكن بعد سنوات من السخاء السعودي على الحريرية السياسية ومن يدورون في فلكها، وقد أوردنا أرقامًا حول الموضوع في مقالنا السابق في موقع الناشر ، لم تحصد المملكة ما كانت تصبو إليه والمتمثل بالقضاء على حزب الله، بعد أن فشل سعد الحريري في تنفيذ الأهداف التي وضعتها له السعودية لتحقيقها في لبنان. لذلك نلاحظ السنوات الأخيرة بحث السعودية عن ضالتها في لبنان، فهل وجدتها؟
تعمل السعودية حاليًا عكس ما تظهره من انكفاء عن الساحة اللبنانية، بما يرده بعض كتّابها إلى خيبة أمل السعودية من رهانها على تيار المستقبل، وذلك لثبوت عجزه عن تحقيق ما أرادته وإهداره الأموال الطائلة من دون الوصول الى النتيجة المتوخاة.
وقد يصدق البعض هذا الانكفاء والتخلي السعودي عن اللعب على الساحة اللبنانية. وهذا الاعتقاد لا أساس له من الصحة بل على العكس من ذلك، حولت المملكة معركتها إلى الظل، بعدما وضعت شرطها الذي يكمن في “ابعاد حزب الله عن الساحة اللبنانية من خلال التخلص من ترسانته العسكرية”. وقد عبرت المملكة عن هذا بمناسبات عدة أبرزها إبان تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، حيث قالت بوضوح إنها “لن تدعم أي حكومة يشارك فيها حزب الله ويفرض شروطه عليها”. للوهلة تصح مقولة إن السعودية لم تعد تريد اللعب في الساحة اللبنانية ولن تعود اليها الا بعد أن يتم تنفيذ شرطها.
ومن هذا المنطلق قام أحد الزعماء اللبنانيين الذي يمثل شريحة من الطائفة المسيحية وقدم نفسه على أنه القادر على تحقيق أهداف المملكة في لبنان شرط إمداده بالمال لكي يقوم بتنفيذ المشروع الذي تريده.
وبما أن المملكة لم تعد تصدق بطبيعة الحال أيًّا كان في لبنان من دون أن يُثبت أنه قادر على تنفيذ ما تريده، وبما أن الشخص الذي طرح نفسه تاريخه حافل بالقتل إبان الحرب الأهلية، والذي افتقدته السعودية مع سعد الحريري، الذي إخفاقه كان جليًا في أحداث ٧ أيار لعدم ثبات المقاتلين الذين استقدمهم إلى بيروت، وكذلك الصفعة التي مُني بها وليد جنبلاط في الجبل، لذا أُحبطت السعودية من الذين دفعت لهم وكانت تعول عليهم في المعركة، لا سيما بعد استضافة غريمتها قطر المسؤولين اللبنانيين في الدوحة وأضحى اتفاق الدوحة يوازي اتفاق الطائف، مع ما نتج عن اتفاق الدوحة من إيجابيات لصالح فريق حزب الله.
المملكة تجرب الآن اللعب، ولكن هذه المرة من الساحة المسيحية بعدما يئست من الساحة السنية التي تعتبرها ساحة ضعيفة ولا توجد فيها شخصية قادرة على تحقيق مرادها. وقد بدا التحرك في الساحة المسيحية جليًا من خلال تناغم البطريرك الماروني مع ما تريده المملكة من تحييد لبنان عن الصراع في المحيط وكذلك مجابهة حزب الله بقضايا متنوعة وصولًا إلى دعم السعودية إرهابيّ الطيونة مؤخراً.
وإذا قمنا بقراءة معمقة نجد من يقفون الآن بصف المملكة جلهم من الطائفة المسيحية. وهذا ليس من باب المصادفة لأن حزب الله لا يمكن كسره في الساحة الشيعية، ولدى السنة لا يوجد شخصية قادرة على لعب الدور المطلوب الا بعض الشخصيات التي تستخدمها السعودية لمساندة الموقف من أجل إظهار الإجماع على قضية ما. أما في الساحة الدرزية فجنبلاط تعلم من درس ٧ أيار ولن يكرر التجربة مرةً أخرى.
السعودية اليوم جنت ثمار الأموال التي قدمتها إلى إرهابيّ الطيونة من خلال الدفعة على الحساب التي قدمها الأخير خلال الأحداث الدامية التي راح ضحيتها مواطنون سلميون يتظاهرون لتصويب أداء المحقق العدلي طارق البيطار، والتي أراد من خلالها الإرهابي الإثبات لممولته بأنه الأقدر على مواجهة حزب الله وليس لديه أي مانع من المواجهة العسكرية مع الحزب إذا توفر دعمها الكامل. والدليل على الدعم السعودي هو تجهيز الخمسة عشر ألف مقاتل الذي يحتاج إلى أموال طائلة تكفلت بها المملكة، ولم تذهب هذه الأموال سدى مثل كل مرة رغم أن أحداث الطيونة لم تلبِّ كل ما كانت تريده المملكة، والذي كان المراد منه جر حزب الله إلى زواريب الحرب اللبنانية، وهو الحزب الوحيد الذي لم يدخل في آتون الحرب الأهلية السابقة، ليصار بعدها ومن باب الحل نزع سلاح الفرق المتقاتلة، وبهذا تكون السعودية قد حصلت الرياض على الهدف الكبير الذي رسمته لها في لبنان. لكن عدم انجرار الحزب إلى هذا الفخ خيّب أمل السعودية، ومع ذلك لم تتوانَ الصحف السعودية عن إظهار فرحتها من “التصدي لحزب الله وصفعه مرة أخرى على وجهه”، ومن أن إرهابيّ الطيونة لقن حزب الله درسًا قاسيًا وبرهن أن هناك أشخاصًا في لبنان لا يريدون الحزب ولن يتوانوا عن مقاومته.
هذا وتعمل السعودية حاليًا على جمع كل مناوئي حزب الله في الداخل تحت راية إرهابيّ الطيونة لتشكيل “جبهة مقاومة بوجه حزب الله”، وهذه الجبهة ستتبلور أكثر في الأيام القادمة، وتروج السعودية في صحفها يوميًا لفكرة أن إرهابيّ الطيونة “وحده القادر على التصدي لحزب الله ويجب أن يلتف اللبنانيون تحت رايته وقيادته من أجل تخليص لبنان من الاحتلال الايراني المتمثل بحزب الله”، بتحريض واضح وصريح على مكون أساسي في لبنان غير مكترثة لعواقب هذه الدعوة التي يمكن ان تؤدي إلى حرب أهلية وتعريض السلم الأهلي للخطر.
وبناء على ما تقدم فإن الدولة اللبنانية اليوم مطالبة بعد استدعاء إرهابيّ الطيونة إلى الاستجواب، بإعادة هذا المجرم إلى اليرزة مجددًا وإلا فإن مجزرة الطيونة سوف تتكرر وليس في كل مرة ستسلم الجرة، فالمخطط الذي يسير به إرهابيّ الطيونة خطر جدًا وما يحاك للبنان والمقاومة من قبَل مشغليه ومموليه سيجر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه، فالذي في جعبة الرجل أبسطه يؤدي إلى حرب طائفية وأخطره يمكن أن ينسف لبنان التنوع والرسالة والتعايش بين أبنائه، برمته.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.