لعلّ أفضل ما في المشهد اللبناني في هذه المرحلة هو وضوح الألوان والأحجام والجهات. يمكن للناظر أن يرى جميع هذه التفاصيل بشكلٍ عالي الدّقة من أي زاوية كانت، ومهما كانت وجهة نظره حيال المشهد بشكل عام. إليكم بعض اللقطات التي تتيح قراءة لبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى..
اللقطة الأولى: القاضي بيطار
منذ تولي القاضي بيطار ملف كارثة انفجار مرفأ بيروت، كانت مؤشرات انغماسه في تسييس الملف وقوننة الاستثمار السياسي فيه واضحة، من إخفاء نتائج التحقيق التقني حول الانفجار إلى الاستنسابية الصريحة في الاستدعاءات. وحين نتحدث عن مؤشرات من هذا النوع، ينبغي لأي ذهن حاضر أن يقرأ فيها تدخلًا أميركيًا بمستوى رفيع. ولذلك، لم يكن غريبًا اندفاع جوقة إعلاميي عوكر ومن لفّ لفّهم من فنانين ومن أقرباء مسيّرين للضحايا، في الدفاع عن القاضي الذي يمرّر في سطور القضاء رغبات أميركا بشكل واضح ومباشر. ولذلك، لم يصعب على متلقي خبر شهادة الكونغرس “بنزاهة البيطار” فهم المقصود جيّدًا من هذه الشهادة الآمرة بالانصياع لما كُلّف به البيطار في ملفّ انفجار المرفأ.
ما تكشفه هذه اللقطة ليس سرًّا بالنسبة إلى صحيحي النظر من قراء المشهد السياسي في لبنان، إلّا أنّ وضوحها يعفي هؤلاء القراء من همّ تبرير توجّسهم من أسلوب البيطار في تولي ملفّ بحجم انفجار مرفأ بيروت، ومخاوفهم حيال خطر طمس حقيقة ما جرى وضياع حقّ كلّ من وما تضرّر جرّاء هذا الانفجار. عنوان هذه اللقطة: الأمركة.
اللقطة الثانية: شارع “الثورة”
ما اصطلح زورًا على تسميته “ثورة” في لبنان لم يكن أكثر من حفلٍ منظّم، يرتدي روّاده زيًّا ثورجيًا بألوان مختلفة وبتصميمات متعدّدة تناسب الديكور المتنوّع والضروري في شكل ومضمون الحضور، موسيقى أميركية صاخبة، واستعراضات ذات طابع فوضوي وشعارات تغازل الحقوق والحريات كي تجد طريقًا إلى تحطيم ما بقي منها، وفي لبنان جميعنا يعلم أن حقّ المقاومة هو الحق الوحيد المصان والباقي وأن حريّة تبني الخيار المقاوِم هي الحرية التي كفلت للجميع، بمن فيهم ألدّ الخصوم وأعتى “الشركاء في الوطن”، كلّ الحريات الباقية.
قامت فِرق هذا الحفل بلعب “عرضها” في مختلف المناطق اللبنانية، وحاكى كلّ فريق البيئة التي يتوجه إليها وينشط داخلها بالمفردات والأدبيات التي تناسبها، أو تصطدم معها تبعًا للظرف وللهدف المطلوب في “التعليمة”، واختلفت نسبة استقطاب الجمهور بين منطقة وأخرى، إلّا أن هذه النسبة لم تبلغ في أحسن أحوالها رتبة توصيف الحفل بالجماهيري.
شيئًا فشيئًا تكشّفت تفاصيل روابط “النُمَر” المتفرقة في الحفل الواحد، وما كان يُعتبر “تحليلًا” في المرحلة الأولى صار “توصيفًا” موضوعيًا في المرحلة الحالية. وبين التحليل والتوصيف، لم يكن ذاك الحفل إلّا أحد السيناريوهات التي يليق بها عنوان “الأمركة”.
اللقطة الثالثة: قافلة كسر الحصار
يرى البعض فيها حلًّا آنيًا لأزمة مستدامة، والبعض الآخر خطوة أولى في طريق التحرير الاقتصادي الذي يكفل حلولًا دائمة لأزمات مهما بدت متجذّرة ستنتهي. وهي في الحالين حلٌّ أراد صانعوه منه إنقاذ النّاس، كلّ النّاس، من بئر الأزمة السحيقة ومفاعيلها التي قد تكون قاتلة.
هذا الحلّ لم يعجب تجار الأزمة، ووكلاءها وصانعيها، فانبروا قوافل تصطدم ببعضها البعض: تلك قافلة هشّة تقودها دوروثي شيّا بشكل مباشر تعد بكلّ ما ليس بوسعها، وتلك قافلة عوكرية تكذّب سطوع الشمس بالأخبار المضلّلة والتكذيبية والكاذبة، وتلك توهّن في حجم ما حققّته القوافل، وأخرى تخوّن كسر الحصار وتعتبره اعتداء على سيادة ما صانها إلّا الذين جاؤوا بالقوافل!
اللقطة هذه استحوذت على عيون العالم أجمع، حتى أمكن لكلّ من شاهدها أن يرى فيها معيارًا دقيقًا للأمركة في لبنان: ببساطة، كلّ من ضلّل واستهزأ وعارض وشكّك ووهّن بهذه القوافل، متأمرك، سواء علم بذلك أم لم يعلم! إذًا، تصح عبارة “الأمركة” كعنوان هنا ولكن مقترنة بكسرها، أو ببداية نهايتها..
اللقطة الرابعة: ضدّ الأمركة
لم يبدأ مشروع التصدي للأميركي في لبنان مع دخول حزب الله معترك المواجهة الاقتصادية ضدّه كمحاصِر يمارس كلّ عدوانيته في هذا المجال، فكلّ طلقة وجّهتها المقاومة إلى صدر الصهاينة وفي رأس التكفيريين كانت تصيب الأميركي بمقتل.. ولأن هذه المقاومة حقّقت التحريرين الأول والثاني على الساحة العسكرية، لم يبقَ للأميركي إلّا الانتقال إلى ساحة الاقتصاد الذي أسّس له فيها ترسانة متأمركة تأتمر بأمره وتخضع له وتعمل كأداة تديرها سفارته “على عينك يا تاجر”.
دخل حزب الله هذا الميدان بعتاد الصبر والبصيرة وبالكثير من المتانة والقدرة على المواجهة بالتدرّج المنطقي الضروري ولا سيّما بالنظر إلى خصوصية الصيغة اللبنانية وطبيعة التركيبات في البلد. وما بلوغ حزب الله مرحلة “نحن حتى الآن لم نخض معركة إخراج الولايات المتحدة الأميركية من أجهزة الدولة، ولكن إذا جاء اليوم المناسب وخضنا هذه المعركة، سيشاهد اللبنانيون شيئا آخر” على لسان رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين.. إذًا، هي إشارة واضحة إلى الأمركة في أجهزة الدولة. إشارة اقترنت ب “نحن لم نخض هذه المعركة، لأننا نعرف ما قدرة تحمل هذا البلد، فأميركا عدو لا تقل عداوة عن إسرائيل”. وهي بحد ذاتها رسالة يمكن لكل من يجيد التمييز بين “لم نخض” و”لن نخوض” فهمها.. بكلام آخر، من تحديات المرحلة ربما تحرير أجهزة الدولة من التوغل الأميركي في آلياتها وعملها وأساليبها وتركيباتها.
وتكثر اللقطات التي جمعُها ينقل المشهد اللبناني إلى المستوى الأعلى من الوضوح: معسكر الأمركة، ومعسكر هزم الأميركيين مرارًا، ويشتاق هزيمتهم مرّة جديدة، موقنًا بنصره، ولو كره الخائبون.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.