استعرضت مجلة “ذي إيكونوميست” المتغيرات السياسية المتسارعة على امتداد الشرق الأوسط، مشيرة إلى أن الحوار السعودي – الإيراني من جهة، والانفتاح المصري المستجد على كل من قطر وتركيا من جهة ثانية، يشكلان أحد عناصر مشهد إقليمي مغاير “أقل احتداماً”، و”أكثر فكاهة واستحساناً” على امتداد خطوط الصراع في المنطقة.
وفي مقال حمل عنوان: “الأعداء المتصارعون على ساحة الشرق الأوسط يعطون فرصة للديبلوماسية”، شرحت المجلة أن تلك التطورات إنما جاءت على خلفية “الإنهاك بفعل الصراعات” و”الحاجة إلى النمو الاقتصادي”. وتابعت “ذي إيكونوميست” في رصد تلك المتغيرات، شارحة أن خارطة الصراع في الشرق الأوسط تتنازعها جبهتان رئيسيتان، “إحداهما تضم دول الخليج وإسرائيل في مواجهة إيران وحلفائها”، فيما “تتشكل الأخرى من دول متعاطفة مع التنظيمات الإسلاموية مثل قطر وتركيا، في مقابل دول لا تكن مثل هذا التعاطف إزاء هذه التنظيمات، على غرار مصر، والإمارات العربية المتحدة”.
وعلى مستوى المحور المناهض لتنظيمات “الإسلام السياسي”، شدّدت “ذي إيكونوميست” على أن زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد لأنقرة والدوحة في آب المنصرم، مثّلت “خياراً يبعث على الدهشة والمفاجأة”، و”مؤشراً على وجود تحول في السياسة الخارجية الإماراتية”، بالنظر إلى اتهامات مسؤولين أتراك لأبو ظبي بالوقوف خلف انقلاب العام 2016 ضد حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، ومشاركة حكومة الإمارات في حصار قطر عقب تفجر ما بات يعرف بـ “الأزمة الخليجية” خلال العام 2017. من هذا المنطلق، رأت المجلة أن الإمارات العربية المتحدة، وإثر انتهاجها سياسة خارجية عدوانية خاصة بها خلال الأعوام الأخيرة، “بدأت تسعى نحو تحقيق انفراجة” في علاقاتها الإقليمية. هذا، ونقلت المجلة عن مسؤولين إماراتيين قولهم “إن هذا (النهج الجديد) يعد أحد العوارض الجانبية لانتشار وباء كوفيد-19. لقد جعلنا ذلك نفهم أنه علينا العودة للالتفات إلى الداخل، والكف عن أنواع معينة من التدخلات على نطاق أوسع ضمن الشرق الأوسط ككل”. وبحسب المجلة، فإن مواقف المسؤولين الإماراتيين “ربما تنم عن مراجعة ذاتية، وتحمل تبريراً بمفعول رجعي” لمسار التحركات الإماراتية في المنطقة، ذلك أن أبو ظبي بدأت في سحب قواتها من اليمن في العام 2019، قبل أشهر من تفشي الوباء، حيث أصبحت الحرب هناك مستنقعاً، فيما طوي الدعم الإماراتي للقائد العسكري المناهض للتنظيمات الإسلاموية في ليبيا (خليفة حفتر) على هزيمة الأخير بفعل التدخل التركي. “فالسياسة الخارجية النشطة حققت مكاسب ضئيلة، لذا فمن الأفضل التركيز على الاقتصاد، الذي يبقى رغم كونه أكثر تنوعاً من اقتصادات البلدان المجاورة، غير مهيأ للتحول بعيداً عن قطاع النفط. وقبيل حلول الذكرى الخمسين لتأسيس الدولة في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، ينهمك المسؤولون في الإعلان عن عدة مبادرات اقتصادية”.
وعن ردود فعل تركيا المحتملة إزاء المقاربة الجديدة لأبو ظبي، أكدت “ذي إيكونوميست” أن أنقرة “توصلت إلى استنتاجات مشابهة” للإماراتيين، على وقع معاناتها الاقتصادية بعدما وصلت مستويات التضخم إلى 19 بالمئة، علاوة على ضعف الاستثمار الأجنبي فيها، وأزمة تدني قيمة عملتها الوطنية، خصوصاً وأن “الخلافات الإقليمية، ناهيك عن الخلافات (الدولية) مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، لا تساعد” على هذا الصعيد. وفي هذا السياق، أوردت المجلة حديث غاليب دالاي، وهو باحث في معهد “تشاتام هاوس”،بأن “الاقتصاد يحتاج إلى خفض حالة التصعيد، وكذلك إلى المال، وهو أمر قد يسهم المستثمرون الإماراتيون في توفير البعض منه. فهبوط قيمة الليرة التركية يعني أنه يمكن للأجانب انتزاع حصة من الأصول التركية بأسعار منافسة”.
وعن آفاق العلاقات المصرية – التركية، فقد أوضحت “ذي إيكونوميست” أن أنقرة “تأمل في الاستفادة من تطبيع العلاقات” مع القاهرة، سياسياً، واقتصادياً. “فعلى الرغم من حالة القطيعة بينهما، بلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين في العام الفائت حوالي 5 مليارات دولار، فيما يصرّح مسؤولون أتراك في أن إمكانات (تطوير التبادل التجاري بينهما) أكبر من ذلك بكثير”. كما تراهن الحكومة التركية على أن “إصلاح العلاقات مع مصر، من شأنه أن يؤتي ثماره السياسية” في صراعها مع كل من اليونان وقبرص حول حقوق التنقيب عن النفط في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي زحزحة الموقف المصري المؤيد للدولتين الأوروبيتين، على غرار الولايات المتحدة، وإسرائيل. وبحسب المجلة، فإن “حكومة أردوغان تعتقد أن إبرام اتفاقية مع مصر في هذا المجال، يمكن أن يساعدها في الخروج من عزلتها، لذلك فإنها تحاول التفاوض على هكذا اتفاقية”، لا سيما بعد نجاح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتفكيك تنظيم “الإخوان المسلمين”، المدعوم من تركيا. وأردفت المجلة بالقول إنه “بالنسبة إلى كل من تركيا وقطر، فإن تكاليف الدخول في مواجهة مستمرة مع مصر والإمارات العربية المتحدة تعد هائلة، فيما الفوائد الناجمة عنها تكاد لا تذكر”.
أما على مستوى تفاعلات المحور المناهض لطهران، فقد لفتت “ذي إيكونوميست” إلى أن الإمارات العربية المتحدة “ليست الدولة الوحيدة التي شرعت في تغيير مسارها”، لافتة إلى أن “المملكة العربية السعودية وإيران قد بدأتا في عقد جولات حوار” بينهما في نيسان/ أبريل الماضي. وأكملت المجلة أن “الخلاف السعودي – الإيراني، الذي أعاد تشكيل المنطقة بعد العام 1979، قد دخل مرحلة من المراوحة خلال السنوات الأربع الأخيرة”، شارحة أن ذلك يعود بشكل أساسي إلى “نجاح إيران في مد نفوذها إلى الخارج” من ناحية، و”إخفاق السعودية” في تحقيق ذلك في المقابل. وأرجعت المجلة عوامل تقهقر الرياض أمام طهران إلى أن “ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عمد إلى ارتكاب سلسلة من الأخطاء الفادحة على صعيد السياسة الخارجية، منذ الأيام الأولى لوجوده في السلطة، وقد حوّل تركيزه منذ ذلك الحين نحو تحويل (بنية) الاقتصاد المرتبطة بالنفط”.
وعن الأسباب الكامنة خلف التقارب الخليجي مع إيران، شرحت “ذي إيكونوميست” أن “حل خلافات (دول الخليج) مع إيران تبقى المسألة الأكثر صعوبة”، مشددة على أن “النظام القائم في طهران لن يتفاوض على نفوذه الذي جهد من أجل الحصول عليه داخل العالم العربي”. وأكملت المجلة: “في المقابل، قد تكتفي دول الخليج بالسعي إلى تأمين ساحتها الخلفية. فقد أصبحت تلك الدول على دراية تامة بحقيقة انكشافها بعدما أفضت حملة الضغوط القصوى التي دشنها دونالد ترامب إلى قيام إيران بعمليات تخريبية ضد ناقلات النفط في الخليج العربي، وتوريد الطائرات المسيّرة والصواريخ بغرض القيام بضربة مفاجئة ضد منشآت نفطية سعودية في العام 2019”. وحذّرت المجلة من أن “وقوع صراع أوسع نطاقاً من شأنه أن يكون مدمراً”. وبحسب المجلة، فإن مسؤولين خليجيين يخشون من أن “إطلاق رشقة صواريخ، متمركزة على نحو ملائم، ومصوبة بشكل دقيق باتجاه محطات تحلية المياه يمكن أن تحيل الخليج برمته إلى منطقة غير صالحة للعيش في غضون أيام”.
هذا، وعرّجت “ذي إيكونوميست” على المشهد الإقليمي المتصدع، موضحة أن “الاصطفافات المشار إليها قد أسهمت في إذكاء نار الصراع في بلدان المشرق العربي، وليبيا، واليمن، إضافة إلى صراعات أقل حدة ودموية في بلدان أخرى”. وأشارت المجلة إلى بروز “اندفاعة ديبلوماسية” شهدتها المنطقة على مدى الأشهر الخمسة الفائتة، وذلك على مستوى عدد من القوى الإقليمية المتنازعة، مضيفة أن تلك الاندفاعة “توّجت من خلال قمة بغداد التي عقدت في الثامن والعشرين من آب/أغسطس المنصرم بحضور مسؤولين من مصر، إيران، قطر، المملكة العربية السعودية، تركيا، وأطراف أخرى”. وأضافت المجلة أن قمة بغداد “رغم عدم تمخضها عن إبرام اتفاقيات ملموسة” بين الدول المعنية، إلا أن “انعقاد (جولة) الحوار يعد خرقاً في حد ذاته”، لا سيما وأن العديد من المشاركين كان يمكن أن يكونوا مترددين إزاء المشاركة في لقاء مشابه منذ وقت ليس ببعيد.
ختمت “ذي إيكونوميست” بأن جميع الأطراف المشاركة في قمة بغداد، “إنما تدخل في هذه المحادثات من موقع الضعف في بعض الجوانب. فالدول الخليجية شديدة الثراء، ولكن هشة، فيما تتمتع كل من تركيا وإيران بالقوة، ولكنهما مفلستان”. وخلافاً لما جاء في بيان القمة الذي أجمع فيه الحاضرون على التمسك بمبدأ رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، استبعدت المجلة أن يلتزم الحاضرون بالمبدأ المذكور. وأكدت المجلة أن هذه “الديبلوماسية الإقليمية ليست معنية بتوفير الراحة لمواطني دول مثل العراق ولبنان، والتي بالكاد تحافظ على وجودها كدول ذات سيادة”، بقدر ما أنها مجرد “محادثات بين قادة مستبدين يتركز جل حرصهم في الاحتفاظ بقبضتهم على السلطة، وتعزيز اقتصاداتهم”. ومع ذلك، ذهبت المجلة إلى أن “المتفائلين يأملون في أن تحمل هذه الاجتماعات إشارة إلى ذوبان الجليد، وأن تفضي إلى نهاية محتملة للنزاعات المدمرة في المنطقة”، مشددة على أن “آمال هؤلاء قد لا تخيب تماماً”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.