حين مرّ البابا من الضاحية

15

لم تكن زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى لبنان حدثًا بروتوكوليًا فحسب، بل حُمّلت منذ لحظتها الأولى دلالات رمزية تتجاوز السياسة وتدخل في عمق الأزمة اللبنانية. فبلد أنهكته الانقسامات والحروب والمجاعات ينتظر أي إشارة أمل، مهما كانت صغيرة، علّها تعيد جزءًا من الثقة المفقودة بين الناس وبين كل من يدّعي حمل رسالة سلام.

لكن ما حصل عند مدخل الضاحية الجنوبية مساء وصول البابا، حين اجتمع مئات المواطنين على اختلاف خلفياتهم تحيةً له، ولم يتوقّف الموكب ولا حتى لالتفاتة عابرة، أعاد طرح سؤال جوهري: هل السلام يُعلن من خلف الزجاج المصفّح، أم يصنع من نظرة مباشرة إلى عيون الناس؟

الضاحية.. حيث كان يمكن للرمزية أن تصبح لحظة تاريخية
تقف الضاحية الجنوبية في الوعي اللبناني كجغرافيا ذات حساسية سياسية وأمنية. ومع ذلك، خرج أهلها -مسلمين ومسيحيين- لاستقبال زائر روحي، رافعين أعلام الفاتيكان ولبنان، في مشهد نادر جمع التعبير الشعبي فوق الاصطفاف الطائفي.

كان يمكن لتوقّف البابا لثوانٍ أن يتحوّل إلى محطة مفصلية: لحظة اعتراف بمنطقة طالما وُضعت في خانة “الخط الأحمر”، وبأنها جزء من لبنان الرسالة، لا فقط لبنان الانقسام. لكن تلك اللحظة لم تحصل. الموكب عبر بصمت، وترك خلفه شعور خيبة أكبر من حجم البروتوكول.

بين البروتوكول ومقتضيات الرسالة
نعم، يمكن تبرير الموقف أمنيًا. ويمكن القول إن جدول الزيارة صارم. ولكن، ماذا يبقى من “رسالة السلام” إذا عجزت عن ملامسة وجوه من قصدوا الشارع فقط ليقولوا: «نحن أيضًا ننتظر كلمة تُطمئننا»؟

البابا، وهو رأس الكنيسة الكاثوليكية، كان بإمكانه أن يكسر التراتبية السياسية والتقنية بتصرف بسيط، أن يضع الإنسان فوق الترتيبات، وأن يثبت أن الروحاني يأتي قبل الرسمي. لكنه اختار الالتزام بخط السير أكثر من الاعتراف بمن على جانبي الطريق.

عندما تُختصر البلاد بالصالونات
في بلد يتآكل من الداخل، غالبًا ما ينحصر التواصل في الدوائر المغلقة. الزعماء يرون الشعب عبر الشاشات، والمبعوثون الدوليون يلتقون ممثليه لا مواطنيه، والرسائل الروحية تمرّ عبر خطابات لا عبر البشر.

عدم توقّف البابا بدا امتدادًا لهذه المعادلة: أن يُرى لبنان كصورة سياسية، لا كوجوه حقيقية. أن يُقاس بأوزانه الطائفية، لا بانتظارات شعبه المنهك.

ما خسرته الزيارة وما كان يمكن أن تربحه
الزيارة مهمة بلا شك، وتحمل أبعادًا روحية ودبلوماسية. لكنها خسرت لحظة صدقية شعبية كان يمكن أن تعوّض جزءًا من التعب العميق الذي يشعر به اللبنانيون. فإيماءة كان يمكن أن تُترجم بأن الضاحية –بكل ما تمثّله– ليست هامشًا، وأن السلام يبدأ من هناك، من الأطراف، من المكسورين، من الذين لا يُستدعون إلى القاعات الرسمية.

سلام من دون تواصل؟
السلام الذي دعا إليه البابا يظل ناقصًا إن لم يبدأ من الشارع، من تلك النظرة المباشرة التي لم تحدث. لأن السلام الحقيقي لا يُعلن من على المنابر فقط، بل يُبنى من لحظات بسيطة، كان يمكن أن تكون واحدة منها عند بوابة الضاحية.

عبر البابا من المكان، لكنه لم يعبر إلى الناس. ومَن أراد أن يخاطب لبنان الرسالة، كان عليه أن يبدأ من الذين انتظروه بلا موعد، لا من الذين جلسوا لاستقباله وفق جدول.

فالسلام لا يأتي في موكب.. بل في لقاء.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.