من البر إلى البحر.. المقاومة لا تغرق
نحن أبناء أرضٍ التي قدّمت شهداءها على طريق القدس، في حربٍ لم تُطفئها السنوات ولا الاتفاقيات. من نداءات الجنوب إلى كل جبهةٍ ارتفعت فيها راية المقاومة، سقط رجالٌ صاروا بوصلة الكرامة، وتركوا للبنان شرف الدفاع لا عبء الحرب. هذه الأرض التي نزفت كي تبقى، تعود اليوم لتواجه ضغطاً من نوعٍ آخر، أقلّ صخباً من القذائف، لكنه أكثر خبثاً من النار: ضغطٌ يُمارس بالاغتيالات والابتزازات الاقتصادية، وبالمناورات التي تحاول “إسرائيل” من خلالها كسر ميزان الردع الذي حماه الدم.
في الأيام الأخيرة، تُكثّف إسرائيل ضرباتها الأمنية على شخصيات لبنانية وفلسطينية في الداخل والخارج، محاولةً فتح ثغرة في جدار الصمود. لم يعد هدفها اغتيال الأفراد فحسب، بل اغتيال المعادلة التي فرضها لبنان منذ اتفاق الترسيم البحري. حين تفشل في الحرب، تلجأ إلى الاغتيال السياسي والاقتصادي، وعندما تُهزم في الميدان، تذهب إلى البحر لتصنع لنفسها نصراً مزيّفاً على طاولة المفاوضات.
كل المؤشرات تُظهر أن “إسرائيل” تعيد النظر باتفاق البحر، وأنها تستخدم الضغط الأمني مقدمةً لنسف التفاهمات السابقة. فاغتيال العقول المقاومة ليس سوى وجهٍ آخر للمفاوضات تحت التهديد. الرسائل واضحة: إما أن تتنازلوا عن بعض البنود، أو سندخل لبنان في دوّامةٍ من الفوضى. ومع كل عملية اغتيال أو تسريب عن “نشاط بحري جديد”، يتضح أن المطلوب إفراغ الاتفاق من مضمونه، وتحويل الغاز إلى ورقة مساومة بدل أن يكون ورقة قوة.
الوساطة الأميركية تتحرك مجدداً، لكن هذه المرة لا بصفة المنقذ، بل بصفة الموجّه. واشنطن تعرف أن لبنان الغارق في أزمته الاقتصادية لن يستطيع أن يصمد طويلاً في وجه لعبة الضغط المزدوج، فتُمسك بيده اليمنى عبر المساعدات، وتلوّح له باليسرى بوقف التنقيب إن لم يلتزم بـ”شروط الاستقرار”. أما أوروبا، فتنظر إلى البحر كبديلٍ للطاقة الروسية، وتُفضّل أن تبقى “إسرائيل” متحكّمة بخطوط الإمداد مهما كلّف الأمر من خرقٍ للسيادة اللبنانية.
في خضم ذلك، يراهن البعض في الداخل على أن الحياد الاقتصادي قد ينقذ لبنان، غافلين عن أن الحياد في زمن العدوان يعني التنازل. فكيف يمكن لدولةٍ أن تتحدث عن الاستثمار وهي مهدّدة باغتيال رموزها كلما رفضت إملاءً جديداً؟ وكيف يمكن لشعبٍ قدّم شهداءه أن يقبل ببيع البحر الذي حماه بدمه؟
الضغط اليوم ليس على الغاز فقط، بل على الموقف. “إسرائيل” تريد لبنان هشّاً، متردداً، يساوم على الحدود مقابل تنفّسٍ مالي مؤقّت. لكنها تصطدم بحقيقة أن الدم الذي سال في الجنوب لا يزال يحرس البحر كما حرس الأرض. من يعتقد أن الاغتيالات ستعيد لبنان إلى طاولة التنازل لا يعرف أن في هذه البلاد من اعتاد أن يُبعث من بين الرماد أقوى مما كان.
وهنا السؤال الذي يختصر المرحلة: هل تدرك “إسرائيل” أن اغتيال الأجساد لا يُلغي الفكرة، وأنّ البحر الذي تظنه مساحة صامتة يحمل في عمقه ذاكرة شهداء لن تسمح بأن يُسرق حقّهم تحت اسم الاستثمار؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.