اقتداءً بالنموذج اللبناني: الطائف السوري المنتظر

8

لم تعد سورية اليوم دولةً مركزية بالمعنى الفعلي، بل خريطة من الإمارات المتجاورة، لكل منها سلطتها وولاؤها وحدودها الخاصة.

تبدو البلاد كجسد واحد في الجغرافيا، لكن على الأرض تسود سلطات متعددة: فصائل محلية، جيوش مناطق، وولاءات تتوزع بين الخارج والداخل، بلا سلطة تضبطها أو مرجعية توحّدها. في الشمال الغربي، تتحكم الفصائل المدعومة من تركيا بالمشهد كاملًا، من المعابر إلى المناهج الدراسية، وفي الشمال الشرقي، تدير قوات سورية الديمقراطية منطقة مستقلة فعليًا بدعم أميركي، وفي الجنوب، تتوزع السيطرة بين مجموعات محلية متباينة الولاءات، بعضها يرتبط بالخليج، وبعضها يتواصل مع النظام في دمشق ضمن تفاهمات هشة. أما دمشق والساحل فهما في حالة خمود سياسي وإداري، بعد تراجع القبضة المركزية وتآكل أجهزة الدولة.

اللافت في المرحلة الراهنة هو الغياب شبه الكامل لإيران وروسيا ميدانيًا. فإيران انسحبت تدريجيًا بعد استنزاف طويل وتكثيف الضربات الإسرائيلية، أما روسيا، المنشغلة بأوكرانيا، فتراجعت من موقع اللاعب إلى موقع المراقب.
لكن الزيارة الأخيرة للشرع إلى موسكو أعادت بعض الحركة في المياه الراكدة، وبدت كإشارة من دمشق -وربما من الجنوب نفسه- لطلب دعم روسي يعيد التوازن المفقود في الجنوب، ويمنع انفلاته نحو نفوذ إسرائيلي كامل.

غير أن روسيا الجديدة ليست روسيا 2015: هي اليوم تبحث عن دور رمزي أكثر من ميداني، عن وجود سياسي يذكّر بأنها لم تغادر الساحة تمامًا، دون انخراط عسكري أو مالي ثقيل. ووسط هذا الفراغ المتعدد، تتبلور ملامح “الطائف السوري”: صيغة حكم تقوم على توازن الضعف وتقاسم النفوذ، لا على وحدة القرار والسيادة. فكل منطقة تحكم نفسها فعليًا كـ”إمارة” صغيرة، تحت سقف دولة اسمها “سورية”، فيما الخارج يضبط الإيقاع دون أن يفرض الحل.

تركيا تمسك بالشمال وتستخدمه كورقة ضغط سياسية وأمنية. أما الدور السعودي والإماراتي في سورية فليس اقتصاديًا صرفًا، بل نفوذ سياسي ناعم بوسائل اقتصادية، يُترجم في: إعادة تأهيل النظام عربيًا، وتمويل محدود في الجنوب والمناطق الرمادية، وبناء جسور مع دمشق دون تمكينها، وخلق بديل تدريجي عن النفوذ الإيراني.

إيران تراجعت إلى الظلّ، وروسيا تحاول أن تستعيد دور الضامن الرمزي من بوابة الجنوب. وفي هذا المشهد، يبرز الدروز مجددًا كبيضة القبان، بحكم علاقاتهم المتوازنة وقدرتهم على التواصل مع مختلف القوى دون ارتهان لأي محور.

هكذا تتشكّل ملامح المرحلة المقبلة: بلاد لا مركز فيها، وسلطة لا تمسك بكل شيء، وإمارات تتعايش تحت علم واحد بانتظار “الطائف السوري” الذي قد يجمّد الأزمة دون أن يحلّها.

خاتمة تحليلية: تشابه الطائف اللبناني
ما يجري في سوريا اليوم يشبه تجربة لبنان بعد اتفاق الطائف: تقاسم النفوذ بين الطوائف والمناطق، وسلطة موزعة، وحضور خارجي يحدد الحدود السياسية والاقتصادية، بينما تبقى الدولة مركزية فقط على الورق.

“الطائف السوري” المنتظر لن يوحّد القرار أو يحلّ الأزمة تمامًا، لكنه سيخلق توازنًا هشًا يسمح لكل طرف بالبقاء داخل اللعبة، تمامًا كما حصل في لبنان بعد التسوية الطائفية.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.