عن مثل هذا اليوم الجنوبيّ..

23

ضجّت مواقع التواصل بحكايات يعود تاريخها إلى ٢٣ أيلول ٢٠٢٤، يوم الغارات الأعنف على الإطلاق، يوم ارتقى فيه أكثر من ٥٠٠ شهيد، واستغرقت فيه الرحلة من الجنوب إلى بيروت بين ١٥ و٢٠ ساعة. أهوال هذا اليوم كانت أشبه بساعات من خارج الزمن. لاحقت الغارات سيارات النازحين المكتظّة. أخبار الشهداء والجرحى والبيوت التي تُدمّر والطرقات التي تُقطع بالقصف تواصلت بوتيرة هي الأقسى والأعنف. ساعات طالت على الطريق، عطش وتعب ورعب وغضب، والوجهة بالنسبة للكثيرين غير محدّدة. كان الأهمّ هو الوصول إلى بقعة لا يطالها هذا القصف الهمجيّ.

المشهد متعب جدًا بالنسبة لكلّ من حكاه، وما تضاءلت وطأته بعد عام، كأنّه يحتلّ حيّزًا حيًّا من الذاكرة. قافلة العوائل الجنوبية التي تحت النار وصلت بيروت والمناطق احتفظت بتفاصيل الرحلة: برجل في مدينة صيدا وقف حاملًا يافطة صغيرة: ستعودون… فيما اصطف شبّان على طول الطريق لتوزيع المياه على العالقين في زحمة السير وبين الغارات. صوت الأناشيد علا من سيارات كثيرة: اختلط صوت المنشد علي العطار: “سنخوض البحر معك…” بصوت جوليا و”منرفض نحنا نموت…” على الطريق أيضًا، لم يكن ترف ذرف الدموع متاحًا، ولا مجال للتعبير عن الهلع رغم الإرهاب الموصوف الذي مارسه العدوّ متعمّدًا. لم يكن النظر إلى الخلف خيارًا أيضًا، ففي الخلف كان الألم أعلى بكثير من عتبات التحمّل: كان في الخلف الجنوب الغالي يحترق.. وتحترق القلوب!

في بيروت كما في سائر المناطق، اصطفّ أهل الشهامة عند التقاطعات الرئيسية وعلى مفارق الأحياء لاستقبال النازحين وتهنئتهم بالسلامة. حينها، انطلقت المبادرات الأهلية لتأمين الاحتياجات الأساسية لمن خرج من بيته ولم يتسنَّ له إحضار شيء معه، كما المبادرات والمساعي لتأمين بيوت وشقق تستقبل من كانوا في بيوتهم معزّزين مكرّمين وخرجوا منها على أمل العودة، والنصر.

في مساء ٢٣ أيلول ٢٠٢٤، كان المشهد قرب جسر الصفير في الضاحية الجنوبية، على سبيل المثال، رغم هول الوجع والقهر، يعكس ثقافة التعاون والتعاضد والتكاتف: هرعت العائلات التي تسكن الضاحية إلى الطريق، وكلّ أخذ من بيته ما يمكن أن يكون مفيدًا لعزيز خرج من داره. سيّدات البيوت انشغلن بإعداد بعض “السندويشات” والوجبات الخفيفة، فالأطفال الذين انطلقوا من الجنوب صباحًا لم يأكلوا شيئًا طوال الرحلة التي استمرّت لساعات، تحت النار. أما بالنسبة للنازحين الذين قصدوا بيوت أهل لهم أو أقارب، فمشهد الوصول كان مغرقًا بالدموع، فلا حزن كحزن ترك الديار، رغم اليقين بالعودة إليها ولو كانت ركامًا.

في خضمّ كلّ ذلك، كان عزاء النّاس أنّ سيّد المقاومة بخير، وكان صوته يرافق خطواتهم كيفما اتجهوا، ولم يكونوا على علم أو شعور بالجرح العظيم الذي سيصيب قلوبهم بعد أيام قليلة. يومها، كانت عبارة “فِدا السيّد…” تبلسم روح قائلها، بحيث تهون كلّ الصعاب وكلّ مواجع النزوح.

في مثل هذا اليوم، خرجنا من الديار وكلّنا يقينٌ أننا بهمّة رجال الله إليها عائدون. وعُدنا، رغم عمق الجرح عدنا، رغم تعقيدات المرحلة، والمواجع التي تتجدّد كلّ يوم بفقد جديد. قد مرّ عام وما انتهت الحرب، ولكن، لم ينقص يقيننا قطرة بالنّصر الآتي بإذن الله، وببركة دم الشهداء، ودم سيّدهم الأسمى، أبينا السيّد حسن.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.