أحمد حاج علي – خاص الناشر |
يشهد النظام الدولي تحولات كبيرة في توازن القوى. فالقوى غير الغربية مثل الصين وروسيا ودول الجنوب تتقدّم لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، مما يضعف الهيمنة الأميركية والغربية التقليدية. في هذا السياق، يعزز التحالف الجديد “بريكس” النفوذ الاقتصادي والسياسي للجنوب، ويقلل من قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على فرض سياساتهم التقليدية في الشرق الأوسط. ويشير البروفيسور ديفيد هاربر إلى أن “تراجع الهيمنة الأميركية والتحولات في بريكس يضع “إسرائيل” في موقف صعب، ويجعل المشروع الإقليمي أكثر هشاشة وعرضة للفشل”.
تحاول “إسرائيل”، في ظل هذه التحولات، ترسيخ موقعها كمركز إقليمي في إطار مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، وذلك من خلال تحالفات اقتصادية وسياسية مع أنظمة عربية مثل السعودية والإمارات، وتوسيع النفوذ الجغرافي في الضفّة الغربية والقدس وسورية. غير أن هذا المشروع، الذي يعتمد على القضاء على المقاومة وبناء بيئة إقليمية آمنة، يواجه هشاشة متزايدة بسبب ضعف التحالفات التقليدية وتراجع النفوذ الأميركي، مما يجعله أكثر عرضة للفشل على المدى المتوسط والبعيد.
ورغم تفوق “إسرائيل” في مجالي التكنولوجيا والدفاع، فإن اقتصادها يعاني تباطؤًا ملحوظًا نتيجة المتغيرات السياسية والأمنية وارتفاع التكاليف الإستراتيجية والعسكرية. فقد تراجع الاستثمار الأجنبي بنسبة 46% منذ عام 2019، مع انسحاب شركات كبرى مثل Intel وSamsung وBen & Jerry’s، إلى جانب صناديق استثمار أوروبية، ما أدى إلى تقليص التمويل المتاح للمشاريع الأمنية والاستيطانية. وقد انخفض النموّ من 4.5% عام 2021 إلى نحو 2.8% عام 2025، في ما تجاوز الدين العام 70% من الناتج المحلي، وهو ما يمثل عبئًا ماليًا كبيرًا على الحكومة.
وفي ظل هذا السياق الاقتصادي المتأزم، ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب، خاصة في القطاعات غير التكنولوجية، بينما تصاعدت التكاليف الأمنية والعسكرية نتيجة الانخراط في عدة جبهات داخلية وخارجية. كما يوضح الدكتور سامر الجابري، الخبير الاقتصادي، أن “انخفاض الاستثمارات الأجنبية وارتفاع الدين العام يكشف هشاشة نموذج ‘الواحة التكنولوجية’ “الإسرائيلي” ويضعف قدرة الدولة على تمويل المشاريع الإستراتيجية والأمنية”.
من جهة أخرى، ورغم القيود والحصار المستمر من “إسرائيل”، يسجل الفلسطينيون نموًا محدودًا للغاية يعتمد أساسًا على المساعدات الخارجية وتحويلات الدول المانحة. ويواجهون في المقابل تراجعًا مستمرًا في الاقتصاد الريعي المحلي، حيث إن اعتمادهم شبه الكامل على الدعم الدولي يجعلهم ضعفاء أمام السياسات “الإسرائيلية”. إلا أن هذه السياسات نفسها تزيد من التوّتر الدولي على “إسرائيل”، إذ إن المتضرر الأكبر إستراتيجيًا هو الاقتصاد “الإسرائيلي” الذي يتعرض لضغوط مباشرة من المقاطعات الدولية المتنامية والحملات الاقتصادية والثقافية ضدّ منتجاته وخدماته، ما يحد من قدرته على جذب الاستثمار ويزيد العبء المالي طويل المدى.
وقد اتسعت رقعة الاحتجاجات وتصدعات الخدمة الاحتياطية منذ مطلع عام 2023 ضدّ خطط “إصلاح القضاء”، وتواصلت موجات التعبئة خلال الحرب على غزّة. ففي 11 شباط/فبراير و6 أيار/مايو 2023، قدّرت وكالة رويترز خروج “عشرات الآلاف” في شتّى المدن، منهم نحو 110 آلاف في تل أبيب وحدها، وهو ما يعكس اتساع قاعدة الرفض الشعبي لسياسات الحكومة. كما هدّد آلاف من قوات الاحتياط بالتوقف عن التطوع، ووقّع أكثر من 1,100 من احتياطيي سلاح الجو رسالة جماعية بهذا المعنى. وقد أقرّ الجيش أنه يقيّم تداعيات ذلك على الجاهزية.
ويُظهر مسح أعده معهد الديمقراطية “الإسرائيلي” بتاريخ 2 تموز/يوليو 2025 تدنّي الثقة برئيس الوزراء مقارنةً بارتفاع الثقة برئيس الأركان إيآل زامير، بنسبة 68.5% بين اليهود “الإسرائيليين” ضمن العينة، وهو ما يُعد مؤشرًا على انحراف البوصلة الشرعية نحو المؤسسة العسكرية مقابل السلطة السياسية المدنية.
وقد تفاقم الخلاف العلني بين حكومة نتنياهو والقيادة العسكرية حول توسيع العمليات في غزّة وخطط السيطرة على القطاع سياسيًا وعسكريًا. حيث طالب وزراء بإقالة رئيس الأركان، في ما حذّر قادة عسكريون من إنهاك القوات ونقص القوى البشرية. وقد نُقل هذا الشرخ على نطاق واسع في الصحافة الدولية الموثوقة، ما يُضعف تماسك عملية صنع القرار ويشير إلى اختلال العلاقة المدنية-العسكرية في ذروة حرب ممتدة.
وتزامن هذا الاضطراب الداخلي مع تخفيضات ائتمانية لـ”إسرائيل” في عام 2024، حيث خفّضت وكالة فيتش التصنيف في آب/أغسطس، وخفّضت وكالة موديز درجتين في أيلول/سبتمبر مع نظرة سلبية. وقد أشارت وكالات التصنيف إلى مخاطر الحرب وعدم اليقين السياسي، ما أضاف تكلفة تمويلية وزاد الضغط على الاستثمار. وتشير تحليلات مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، كما تقول الدكتورة داليا شيندلين، إلى أن “إسرائيل” تعيش أزمة انقسام داخلي مستدامة تجعل قرارات الحرب رهينة اعتبارات سياسية وائتلافية، وتُضعف القدرة على بناء توافق وطني أو إستراتيجية خروج واضحة. وتُنتج هذه العوامل—تآكل الثقة بالحكومة، رفض أجزاء من الاحتياط، اشتداد الانقسام المدني-العسكري، وتداعيات مالية مرتبطة بعدم اليقين—هشاشة داخلية تُترجم إلى مخاطر تشغيلية على الجبهة العسكرية، وكلف تمويل أعلى، وتآكل شرعية يعقّد قدرة “إسرائيل” على فرض رؤيتها الإقليمية أو الحفاظ على زخم طويل الأمد للحرب.
تعتمد “إسرائيل” على إنشاء نظام إقليمي يضمن أمنها ومصالحها، عبر التطبيع الشامل مع الدول العربية، وتوسيع النفوذ الاقتصادي، وإضعاف المقاومة الفلسطينية. ومع ذلك، يواجه المشروع عدة عقبات، أبرزها تصاعد المقاومة الشعبية، ورفض شعبي واسع للتطبيع، وصراع السيطرة الإقليمي. فبالرغم من العلاقات مع تركيا، إلا أن هناك صدامًا في الملف السوري تحت عنوان الأمن القومي ومناطق النفوذ والسيطرة، إضافة إلى المواجهة السابقة والمتوقعة بين “إسرائيل” وإيران. وتقلل التحالفات الدولية الجديدة، مثل بريكس وتحالفات دول الجنوب، من الاعتماد على الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، ما يزيد العبء على “إسرائيل” ويضعف قدرتها على فرض هيمنتها الإقليمية. ويرى الجنرال المتقاعد رافي كوهين أن “إسرائيل تواجه أزمة شرعية وإستراتيجية غير مسبوقة، والدعم الدولي التقليدي يتراجع بسرعة أمام تحولات القوى العالمية الجديدة”.
على الأرض، نفذت القوات “الإسرائيلية” عمليات واسعة في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من الفلسطينيين من المخيمات والمدن، مع هجمات مركزة على مراكز المقاومة والمخيمات الشعبية. ورغم أن المقاومة المسلحة في الضفّة الغربية لم تنتهِ بشكل كامل، إلا أنها ضعفت نسبيًا بسبب الحصار والتضييق من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تعتبر نفسها الوكيل الأمني لـ”إسرائيل” في الضفّة، إضافة إلى الحملات “الإسرائيلية” المكثفة على المخيمات والمدن.
أما في قطاع غزّة، فقد واجه الجيش “الإسرائيلي” صعوبة كبيرة في تحقيق أهدافه الإستراتيجية، رغم التفوق التكنولوجي والعددي. وقد استخدمت المقاومة الفلسطينية قدراتها العسكرية المكتسبة وخبرتها الميدانية، بالإضافة إلى الدعم من الحاضنة الشعبية، للرد على العمليات “الإسرائيلية” بشكل منظم، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة الحرب على “إسرائيل” وتعطيل السيطرة على البنية العسكرية للمقاومة في غزّة.
وتواجه المقاومة الفلسطينية ضغوطًا متعددة تشمل تراجع القدرات العسكرية نتيجة الحصار على الأسلحة والموارد، والقيود الأمنية والسياسية من السلطة في الضفّة، واستمرار العمليات العسكرية “الإسرائيلية” الهادفة لتفكيك البنية العسكرية للمقاومة. لكنّها استطاعت الحفاظ على نشاطها العسكري في كلا الموقعين: الضفّة وغزّة. ويشير الجنرال المتقاعد رافي كوهين إلى أن “العمليات المكثفة في الضفّة الغربية وغزّة لم تحقق السيطرة الكاملة على المقاومة، لكنّها أسفرت عن إضعافها النسبي وارتفاع فاتورة الحرب”.
وشهدت السنوات الأخيرة تحولًا ملحوظًا في الرأي العام الدولي، خاصة بين الشباب في الغرب والعالم العربي. فقد أظهرت استطلاعات 2024 و2025 أن أكثر من 60% من الشباب في أوروبا وأميركا يرفضون السياسات “الإسرائيلية” تجاه الفلسطينيين، في ما نحو 75% من الشباب العربي يعارضون التطبيع ويدعمون المقاطعة الاقتصادية والثقافية. وتوضح الناشطة الجامعية ليلى حمدان أن “الطلاب أصبحوا يواجهون الحملات الإعلامية “الإسرائيلية” بشجاعة ويطالبون بمقاطعة المؤسسات الداعمة لإسرائيل”.
وتعتمد “إسرائيل” على الذكاء الاصطناعي ووسائل المراقبة الرقمية لإدارة حملاتها الإعلامية، لكن الدكتورة ندى الحلو تشير إلى أن استخبارات المصادر المفتوحة -أي جمع وتحليل المعلومات من مصادر مفتوحة مثل وسائل التواصل الاجتماعي والصور والفيديوهات الميدانية- تعزز قدرة الفلسطينيين على توثيق الانتهاكات بشكل شفاف وتحد من فعالية الحملات الإعلامية “الإسرائيلية”.
هذا التحول في الرأي العام له نتائج إستراتيجية مهمة؛ فهو يزيد الضغط الدولي على “إسرائيل”، ويعزز المقاطعة الاقتصادية والثقافية، ويدعم موقف الفلسطينيين على المستوى الإستراتيجي والدبلوماسي. كما يقلل من قدرة “إسرائيل” على تعزيز التطبيع مع الدول العربية دون مواجهات شعبية داخلية وخارجية، ويزيد من فرص التحالفات الفلسطينية مع الدول الصاعدة والداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني. ويشير البروفيسور ديفيد هاربر إلى أن “تنامي التأييد الدولي للفلسطينيين يخلق بيئة إستراتيجية أكثر توازنًا في الشرق الأوسط ويضعف قدرة “إسرائيل” على فرض رؤيتها الإقليمية بشكل أحادي”.
اقتصاديًا، تواجه “إسرائيل” تباطؤ النمو، وارتفاع الدين العام، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية، وتراجع التمويل الأميركي، وتأثير المقاطعات الدولية المستمرة. أما عسكريًا، فرغم التفوق التكنولوجي، لم تحقق العمليات السيطرة الكاملة على المقاومة في الضفّة وغزّة، ما انعكس على فاتورة الحرب المرتفعة. وقد بلغت الخسائر البشرية 891 قتيلًا و5,569 جريحًا ضمن بند “الرقابة العسكرية “الإسرائيلية””، مع توقع أن تكون الأرقام الفعلية أعلى.
سياسيًا ودبلوماسيًا، تراجع الدعم الدولي وظهرت انتقادات في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، مع انقسامات داخلية حادة. وعلى الجانب الفلسطيني، فإن الاعتماد الأساسي لا يزال على المساعدات الخارجية، مع تراجع النشاط الريعي المحلي بسبب الإجراءات “الإسرائيلية” والسياسات القمعية. ومع ذلك، فإن دعم الدول الصاعدة يوفر مساحة محدودة لتطوير مشاريع محلية.
وقد نجحت المقاومة في الحفاظ على نشاطها رغم الضغوط العسكرية “الإسرائيلية” والحصار، مدعومة بالحاضنة الشعبية، ولم تنتهِ المقاومة المسلحة في الضفّة، واستمرت في غزّة بشكل منظم، ما يعكس قدرة إستراتيجية على البقاء. كما ساعدت استخبارات المصادر المفتوحة على توثيق الانتهاكات، وتعزيز التحالفات مع قوى دولية صاعدة، والضغط الدولي على “إسرائيل”، ما يوفر فرصًا للفلسطينيين لإعادة التموضع على المستوى الإقليمي.
وفي ضوء هذه التحديات، تظهر فرص إستراتيجية للفلسطينيين لتعزيز مقاومة متعددة الجبهات تشمل الإعلام الرقمي، التعليم، الاقتصاد، والمقاطعة، مع استثمار الدعم الدولي لتعزيز موقفهم في المحافل الدولية. كما يمكن تطوير مشاريع اقتصادية محلية لتقليل الاعتماد على الدعم الخارجي، واستخدام استخبارات المصادر المفتوحة لتعزيز توثيق الانتهاكات والضغط الدولي، مع متابعة التحولات والتحالفات الجديدة مثل بريكس لموازنة القوى الإقليمية واستغلالها لصالح القضية الفلسطينية. في المقابل، يواجه المشروع الإقليمي “الإسرائيلي” هشاشة شاملة على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية، مما يجعل إستراتيجياته طويلة المدى معرضة للفشل النسبي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.