عبروا والنصر يتلألأ في ضوء الشمس.. يصدح مقاومة من صيحات العائدين.. على محياهم ألق عز مبين.. تغمرهم معاجم عشق الأرض.. فرحتهم بادية على وجوههم.. وعبرتهم في عيونهم مخنوقة مكتومة إلى حين.. عبروا وغبار العزة يحفهم من كل جنب وصوب.. من تحت الركام انتفضت عروس الأرض، لبست أبيضها، تستقبلهم بعد طرد الغاصبين، طال اشتياقها وانتظارها كأنه دهر وسنون.. لكنه استحال في غمرة اللقاء عرسًا وطنيًا يرصع بالكرامة كل جبين.
إلى الجنوب.. إلى عيترون در.. بعد 15 شهرًا من الابتعاد القسري على وقع الأناشيد الثورية انطلقنا حاملين راية المقاومة وصور شهدائنا.. منذ الصباح الباكر يممنا وجهنا جنوبًا وسرنا. كان مشهد العودة مهيبًا. قوافل السيارات أمامنا، والكل في وجهة واحدة، الكل مشتاق ليشتم رائحة ثرى الجنوب وليتعطر بالعز والكرامة وتلفحه نسائم النصر التي تنقلنا من جديد إلى زمن التحرير عام 2000، زمن الانتصارات المعبّد طريقه بأجساد الشهداء الطاهرة المزروعة في الأرض، فأثمرت ياسمين حرية ورياحين نصر..
سرنا ولافتات الترحيب بالعودة تؤازرنا على جنبات الطريق من بيروت إلى مدخل صيدا صعوداً، وكلما تقدمنا أكثر كان القادة الشهداء يرمقوننا بعيونهم من صورهم المنتشرة على الأوتوستراد، ويغمروننا بابتساماتهم كأنهم يشاركوننا من عليائهم فرحة النصر الذي خططوا له وخطوه بدمائهم.
إلى ساحة بلدة كونين وصلنا تجمع أهالي البلدة وعوائل الشهداء لاستقبال الوافدين بالمضائف وهم يحملون رايات المقاومة وصور شهدائهم.. تكرر المشهد عند مدخل عاصمة التحرير بنت جبيل، مضيف تتقدمه صورة كبيرة للشهيد الأسمى الأمين العام السيد حسن نصر الله يليها صور شهداء المدينة.. مشهد يختصر بطولات وتضحيات جسيمة قدمت على مذبح الوطن ويعبر عن تمسك أهل الأرض بخطهم ونهجهم المقاوم رغم كل المآسي والدمار الذي عايشوه 15 شهرًا لكنهم ما بدلوا تبديلاً، بل ازدادوا صلابة ويقيناً بمقاومتهم وبأن تضحياتهم أزهرت وأثمرت.. بعد اليوم لم تعد المقاومة حكرًا على شبانهم، صار الكل مقاومًا. صار الطفل مقاومًا.. والنسوة مقاومات.. الكل، الكل دون استثناء ضحوا بدمائهم وأرزاقهم وبيوتهم وأبنائهم، واليوم في مسيرة العودة مستعدون بجرأة قلّ نظيرها لتقديم أنفسهم وهم مرفوعو الرأس شامخون كجبلي “كحيل” و”الباط” اللذين يحدان عيترون.
إلى مثلث التحرير توجهنا، الشاهد الأبرز على بطولات المقاومين عام ٢٠٠٦، ومجددًا عام ٢٠٢٥ هناك تجمع أهالي البلدة بمؤازرة الجيش اللبناني جميعهم كانوا على الموعد باكرًا.. بل لم ينتظروا الموعد المحدد للانطلاق. من قرب مستشفى الشهيد صلاح غندور عند الثامنة صباح الأحد انطلقوا، قبل الموعد كانوا باكرًا عند قوس النصر على مدخل البلدة، على بعد مئة متر من موقع تمترس به جيش العدو في ميركافا خلف ساتر ترابي منتصف الطريق.
كانت أولى محاولات دخول البلدة بالأجساد العارية.. واجهها العدو الجبان بإطلاق الرصاص الحي على الرؤوس ما أفضى لاستشهاد شابين وجرح عدد آخر جرى سحبهم.. لم يفت ذلك الإرهاب والقتل العشوائي الذي مارسه العدو من عضد الأهالي، بل زادهم تشبثًا وإصرارًا على الدخول إلى البلدة فعاودوا محاولاتهم بعدما تواترت أخبار الدخول إلى عدد من القرى الحدودية المجاورة.. ظلوا ينتظرون طوال النهار أملاً بتحقيق حلم العودة، وبدل أن تنخفض أعدادهم ازدادت في فترات بعد الظهر.. وعمل المعنيون على ضبط اندفاعتهم بالتنسيق مع ضباط وجنود الجيش الذين أبدوا كامل التعاون معهم، وبينما الأمور على هذا المنوال تواترت أخبار جديدة عن استشهاد رجل وامرأة كانا يستقلان سيارة، حاول الاسعاف التقدم لسحب جثمانيهما لكنها لم تستطع، فعادت أدراجها خالية، وما إن علم الضابط حتى ركض باتجاه آليته ونادى أحد الجنود، وتوجه أمام الاسعاف فعادت تحمل الزوجين الشهيدين. مشهد اختصر بتجلياته معادلة جيش وشعب ومقاومة الذهبية وتكاملها في مواجهة العدو الغادر.
بعدها عاد الأهالي لمحاولة دخول بلدتهم مجددًا. استقدموا جرافتين و”بيك آب” مزوداً بمكبرات صوت، تذيع الأناشيد الحماسية للمقاومة. واتفق المعنيون على أن تسير الآليات في المقدمة والجيش خلفها، ومن خلفه الأهالي، لكن الجيش كان ينتظر الأمر من قيادته بالتقدم وبقي طوال يوم الأحد دون أن يأتيه ذاك القرار.
في اليوم التالي، الاثنين، تكرر مشهد الزحف البشري من جديد باتجاه عيترون وبشكل أكبر من اليوم السابق وتمكن الأهالي من الوصول إلى مسافة صفر من موضع تمترس العدو خلف الساتر الترابي، وكانوا يهتفون للمقاومة ويلوحون براية حزب الله في مشهد تحدٍّ، يثبت للعالم أن المقاومة لا يمكن انتزاعها من قلوب الناس ولا يمكن إبعادها عن الحدود لا ١٠ ولا مئة كيلومتر ولا ألف كيلومتر، لأنها هي هؤلاء الناس، هي أهل الأرض وأصحاب الأرض، متجذرة فيهم، طالما هناك احتلال وعدو يتربص على حدودهم فلا حدود لمقاومتهم فإن نزعوا السلاح منها ستبتدع وستقاتلهم بأسنانها وإرادتها التي لا تلين وبالحجارة والسكين والأجساد العارية.. بصغيرها بجنينها وشيخها وبنسوتها التي أنجبت أبطالًا وشهداء أعزوا الوطن.
بقي الحال على هذا المنوال قرابة الأسبوع، حتى كانت عيترون على موعد جديد مع تحريرها الثاني يوم الأحد في الثاني من شباط 2025. صباح ذلك اليوم انتشر الجيش اللبناني بآلياته على مدخل البلدة الغربي لجهة بنت جبيل.. وعبر الأهالي إلى قريتهم سيرًا على الأقدام. لم ينتظروا فتح الطرقات وإزالة السواتر الترابية والمفخخات التي خلفها العدو، تدافعوا أفواجًا أفواجًا والغبار يزعق خلفهم.. إلى أن بلغوا وسط الضيعة التي عادت بلقاهم تنبض بالحياة. هناك افترشوا ساحة البلدة قرب الحسينية الآيلة للانهيار، والتي ما زالت تحتضن رفات شهداء تحتها.
المشهد كان مروعًا. كل الذكريات القديمة عن عيترون صارت صورًا، شوّه العدو جمالية البلدة وغير معالمها بالكامل إلى حد بدت كأنها خارجة من زلزال 10 درجات على مقياس ريختر، دمر حاراتها وحرث بدباباته وجرف أراضيها، واقتلع فيها الأشجار من جذورها.. منها الزيتون والليمون الذي دفن بثماره تحت التراب.. ومنها شجرة سرو عملاقة معمرة استظلت أجيال بفيئها.. وقف أحد أبناء الضيعة يتأملها وقال:”أذكر هذه الشجرة منذ طفولتي..”، حتى الينابيع القديمة في البلدة خرجت من أعماق الأرض وبدت فوهاتها مجددًا على صُعُد الطرقات. جميع البيوت والمحلات التجارية على جنبات الطريق من الجهتين لم يسلم منها شيء، منها ما دمر، ومنها ما أحرق، ومنها ما عاثوا فيها خرابًا وكتبوا على جدرانها باللغة العبرية، ومنها ما سلبوه، أحد الأهالي قال:”سرقوا 18 بارودة صيد من منزلي”، صاحب منزل آخر قضى عمره بجمع “الأنتيكا” سرقوه وفجروه. الضيعة القديمة استحالت كومة ركام. مساجد البلدة ومآذنها دمرت.. حتى المقابر وقبور الشهداء قصفت وتبعثرت.
في قلب الضيعة القديمة، المكان الذي حصلت فيه أعتى المواجهات والتي أعجز فيها مقاومان جيش العدو، تلك المعركة التي كشفت صحيفة “يديعوت أحرنوت” عن تفاصيلها ووصفتها بأنها “المعركة الأكثر دموية والأطول التي خاضها الجيش “الإسرائيلي” وانتهت بمقتل 6 من جنوده وإصابة 14 آخرين”، أهالي أبطال تلك المواجهات حضروا للبحث عن آثار لرفات أبنائهم الشهداء. أما الشاهد على طبيعة المعركة التي حصلت هناك فكان الرصاص الفارغ وبعض مخلفات العدو. مخازن سلاح وصناديق كرتون مكتوب عليها باللغة العبرية ومعلبات “إسرائيلية”.. وأكياس قطن عليها آثار دماء جنود صهاينة.. أما ركام المنازل وما طاولها من تفجير وجرف لأحياء كاملة، فكانت دليلاً آخر على همجية انتقام العدو من الحجر والشجر، إلى حد بدت البلدة خالية من الطرقات الفرعية ومغطاة بأكوام الركام.
ومع فتح البلدية للطرقات، غصت ساحة البلدة بحجاجها من أهلها، ومن وسائل الإعلام ، قنوات فضائية شتى أتت لتغطية الحدث بعضها لينقل الحقيقة وبعضها ليحرفها ويزيفها، بنقلها وفق توجهاته الخاصة.. هؤلاء صالوا وجالوا وهم يبحثون عن “نقيق” أو نعيق أحد الأهالي كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، وسؤال بعضهم المعهود “شفت بيتك لقيته مدمر؟”، لكنهم خابوا آخر النهار وما نالوا كلمة تأفف واحدة ضد المقاومة، لأن الجواب كان جاهزًا عند الأهالي “كل أرزاقنا وممتلكاتنا ما بتسوى شي قدام دماء الشهداء اللي حررت الأرض وعلى رأسها دماء سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله”، ولأنها ليست تلك الأجوبة التي ترضي شغف إعلام النكد اللبناني، كان من الطبيعي أن يتم “كنسلة” هذه الإجابات وأن يكتفوا بمنتجة استصراحات الناس واجتزائها، ليضعوا عبارات على شاكلة: “شو ذنب البيت والبوسطة يلي أني بعتاش منها” “شو ذنب الشجر. هذه حبة الصنوبر من شجراتي يلي شايلينها”.. طبعًا دون أن تأتي تقارير مراسليهم على ذكر أن سبب كل ذلك الدمار هو جيش العدو.
قنوات خبيثة لا تعكس حقيقة المشهد، فالأهالي الذين كانوا يتجولون في أرجاء بلدتهم وفرحة النصر تغمرهم، ما جاؤوا بالتأكيد ليتفقدوا بيوتهم “وصنوبرهم”، لأنهم كانوا يعلمون مسبقًا أنها سويت بالأرض وهم بذلك واسوا بإرادتهم أهل غزة كما واسوها بنزوحهم نفس المدة التي نزحها أبناؤها من حرب إسنادها.. بل جاؤوا ليروا بأم أعينهم همجية ووحشية العدو وليتحدوا عنجهيته ويكتبوا بعودتهم أن “الأرض لنا”، لن تسلبونا إياها، وأننا عدنا رغمًا عن أنوفكم لنعمرها من جديد. عدنا لنبني ونقاوم وإن ما ارتكبتموه سنريه لأجيالنا الصاعدة فأرضنا ولادة، من تحت هذا الركام ستنبت مقاومين يحملون أمانة رفاقهم ممن سبقوهم على درب الشهادة ولن يتراجعوا، فبعد اليوم لن يكون هناك شعب ومقاومة، بل مقاومة شعب أبي عرف الطبيعة العدوانية للكيان الغاصب وأدرك من جديد أنه لا يفهم إلا لغة القوة والشهادة. فإذا كان التحرير الأول جهّز لكم آلاف المقاتلين فإن التحرير الثاني في الجنوب سيعد لكم المفاجآت الكبرى، وسيحيل كل طفل وكل شاب وشيخ وامرأة إلى مجتمع مقاومة صلب، ستبقى رؤوسهم شامخة مرفوعة، حتى يتحقق الحلم الأكبر الموعود بالنصر الأعظم.
لقد حولت الحرب وأطنان القنابل البشر وحبات التراب والحجر والريح والشجر في جنوبي الصامد مقاومة شامخة لا تنكسر.. وعلى أرض الجنوب تحول جنود الجيش الذي لا يقهر إلى فئران تختبئ من أناس عزل يقاومون بصدورهن العارية إرهاب ورصاص الجيش القاتل المعزز بفائض القوة العسكرية دون اكتراث، فهم صنعوا المعادلات وأبهروا العالم بمعجزاتهم وسيّجوا حدود وطنهم لبنان بدمائهم وأثبتوا من جديد أنهم مدرسة السيادة والوطنية، وأنهم اشرف الناس وتاج الرؤوس.. الذين حققوا النصر الساطع وأذلوا ويذلون كل يوم عدوهم الغاشم.
علي عوباني – موقع العهد
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.