لطالما أدهشتنا تفاصيل الصراعات السياسية وحكايات بعض أفرادها، التي كثيرا ما نعتقد أنها ضرب من ضروب الخيال. بل وحتى في السينما نفسها، حين قدَّم لنا فيلم “ولاد العم” قصة مخابراتية مثيرة بدأت عندما كشف “عزت” (شريف منير) لزوجته “سلوى” (منى زكي) عن شخصيته الحقيقية، وأنه إسرائيلي مستعرب وضابط بالمخابرات الإسرائيلية وليس عربيا مسلما كما اعتقدت، ربما ظنَّ السواد الأعظم من المشاهدين بأن تلك ليست سوى قصة سينمائية من خيال المؤلِّف، بيد أن الواقع أحيانا ما يضاهي الخيال، كما تُنبئنا حكاية هؤلاء المستعربين في الحقيقة، وهُم ضباط يهود تخفُّوا طويلا أو قليلا وسط العرب لإنجاز مهام مُحدَّدة تخدم مصالح وأمن “إسرائيل”.
المستعربون الأوائل
يُعَدُّ فريق “المستعربين”، أو “مستعرفيم” كما يُنطَق بالعبرية، واحدا من الفِرَق الإسرائيلية الخاصة التي يحيط بتحركاتها ونشاطاتها الكثير من السرية. ويتكوَّن هذا الفريق من خليط من الرجال التابعين لشتى الأجهزة الإسرائيلية، مثل جهاز الأمن العام “الشاباك” أو جهاز الاستخبارات “الموساد”، وأحيانا الشرطة الإسرائيلية نفسها. ويعود الظهور الأول لفكرة الاستعراب إلى ما قبل تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولم تكن العصابات الصهيونية هي صاحبة المبادرة، بل جاءت الفكرة من الإنجليز الذين اقترحوا على القيادة الصهيونية استغلال الإمكانيات التي يتمتع بها اليهود الشرقيون الذين استوطنوا فلسطين، وذلك عبر انتقاء مجموعة منهم والعمل على تجنيدهم في إطار استخباراتي، ثم زرعهم في صفوف العرب داخل وخارج فلسطين.
زادت الحاجة إلى المستعربين بعد دخول النازيين إلى باريس وإقامة حكومة “فيشي” الموالية لهم في فرنسا، مما أدى إلى وقوع كلٍّ من سوريا ولبنان تحت السيطرة النازية، وأثار مخاوف البريطانيين الذين أرادوا حماية قواعدهم الحربية ومواقعهم الإستراتيجية في الشرق الأوسط، لا سيما مصر وفلسطين. سرعان ما اختمرت الفكرة في عقل البريطانيين والصهاينة، فبدأ تنفيذها فعليا عام 1943 حين أعلن “إسحاق ساديه”، قائد كتيبة “البالماح”*، عن تبني إستراتيجية تستعين باليهود من ذوي الأصول العربية لخدمة المشروع الصهيوني وإقامة دولة يهودية على أراضي فلسطين. وسُميت وحدة المستعربين الأولى “هشاحار”، وهي كلمة عبرية تعني الفَجْر، واندرجت تحت لواء “البالماح”.
ساهمت هذه الوحدة في توفير الكثير من المعلومات الدقيقة حول المجتمع الفلسطيني والمجتمعات المحيطة به بدءا من سنة 1950، حيث عمل المستعربون على دعم القيادات العسكرية والسياسية لإدراك ما يدور في فلسطين والدول العربية الأخرى. في الوقت نفسه، استفاد البريطانيون من هذه الوحدة في محاربة الألمان، وفي وضع حدٍّ للأطماع الفرنسية في الشرق الأوسط في الوقت ذاته، ثم بعد ذلك في تسليم أراضي فلسطين إلى الحركة الصهيونية تنفيذا لوعد بلفور. وقد بدأت الترجمة الحقيقية لهذا التعاون خلال الاجتماعات الأولى بين وحدة العمليات الخاصة البريطانية في سوريا والدائرة العربية في “البالماح”، وتعمَّق التعاون بين الطرفين حين أشرف البريطانيون على تدريب مقاتلين يهود من أجل تنفيذ عمليات استخباراتية وتخريبية ضد العرب.
بعد إقامة دولة الاحتلال، أدرك يهود الغرب “الأشْكِناز” أن سيطرتهم على البلاد ومؤسساتها وكواليسها لن يتم دون مواطنين من الدرجة الثانية، وهم “السَفارْديم” (يهود المشرق)، وذلك بسبب تمكُّنهم من مجموعة مهارات افتقدها يهود الغرب آنذاك، وعلى رأسها إجادة اللغة العربية ومعرفة العادات والتقاليد المحلية. وبناء على ذلك نجح قادة “الهاغاناه” و”البالماح” في تجنيد العديد من اليهود السفارديم للعمل في وحدة المستعربين داخل وخارج فلسطين، ولم يكن مسموحا لهؤلاء اليهود الشرقيين أن يجلسوا على المكاتب ويتخذوا القرارات السياسية والعسكرية المهمة لدولة الاحتلال، بل كانوا مجرد أداة تَجْمَع المعلومات الاستخباراتية وتوصِّلها إلى القيادة الإسرائيلية التي تصرَّفت على ضوء ذلك.
عانى السفارديم كما هو معروف من التمييز العنصري، ولم يكن مستعربوهم أفضل حظا، إذ يقول “جمليئيل كوهين”، مستعرب شهير، إن اليهود العرب عرفوا التمييز منذ وطأت أقدامهم فلسطين المحتلة، فعندما وصل بعض أبناء الصهاينة إلى “إسرائيل”، سارع الأشكِناز في تبنِّي الأطفال الغربيين، فيما رفضوا تبنِّي أبناء العرب من إخوانهم في العقيدة تحت ذريعة الاختلاف الثقافي. لكن في الوقت نفسه، كان هذا العائق أحد أبرز الحوافز التي دفعت المستعربين للعمل مع القوات الإسرائيلية، فكانت إحدى أولى مهامهم الإشراف على عملية اغتيال عدد من الألمان ذوي الفكر النازي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ دبَّر الأشكناز لتنفيذ هذه العملية بواسطة المستعربين، حتى يظهر للرأي العام أن العرب هم مَن قاموا بذلك، وألا علاقة لليهود بهذه العملية.
لم يقتصر دور المستعربين بالطبع على ذلك، فقد كان لهم دور مهم في تنشيط هجرة اليهود من الدول العربية إلى الأراضي المحتلة، حيث بدأوا بالعراق سنة 1947، ثم توسَّعوا في بداية الخمسينيات لتشمل جهودهم دولا عربية أخرى، ونُفِّذ كل ذلك تحت إشراف شخصية محورية هي “شموئيل موريا”، أحد أبرز قادة جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، وهو المسؤول عن تشكيل هذه الوحدة التي أُطلِق عليها لاحقا “وحدة الموت”.
على أرض الواقع
بعيدا عن الصورة النمطية لرجل المخابرات التقليدي، الذي لا يبتسم إلا قليلا ويُدخِّن السجائر دون انقطاع ويظهر مهندما وحازما وذا ملبس رسمي في آنٍ واحد، يعيش المستعربون حياة مختلفة تماما، صحيح أنها حياة تشوبها السرية، لكن مظهرها الخارجي مثير للاهتمام. للمفارقة، تبدأ حياة المستعرب كما في جلِّ المجتمعات العربية والإسلامية بإقامة صلاة الفجر في جماعة، حيث يُصلِّي مع الناس، ثم يخرج إلى حياته العادية، فهو إما بائع متجوِّل أو عامل بأجرة أو عاطل عن العمل مثل شريحة كبيرة من شباب العالم العربي. وقد يكون المستعرب شابا، وقد يظهر بمظهر شيخ يستند إلى عُكَّاز لن يشك أحد أبدا في هرَمِه، قبل أن يعود عشرينيا سريعا حين يتدخَّل لاعتقال شخص أو اغتيال آخر من أعداء دولة الاحتلال.
لطالما اختار المستعربون أماكن عملهم بعناية شديدة منذ بدء الاحتلال، فليس من قبيل المصادفة أن وقع اختيارهم على المدن العربية المركزية كونها أساسا للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. فقد وُضِعت قائمة بالمواقع الإستراتيجية في العالم العربي حتى تُستَهدف عن طريق عمليات تخريبية وإرهابية، ومنها مدن عربية في سوريا ولبنان مثل دمشق وحمص وحماة وحلب وبيروت وطرابلس ومصايف لبنان الساحلية والجبلية، ثم في مصر مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، علاوة على عدد من مدن الأراضي المحتلة على رأسها القدس عاصمة فلسطين. وقد ركَّز المستعربون على مصافي النفط في لبنان وسوريا لنقل معلومات عنها إلى الاستخبارات العسكرية كي تُدبِّر العمليات لإلحاق الضرر بها، كما جمعت هذه الفِرَق معلومات متفرِّقة عن المطارات في عدة دول عربية لاستهدافها والتأثير على حركة الطيران المدنية والعسكرية، بالإضافة إلى محطات القطار والأسواق والمرافق الحيوية الأخرى.
تطوَّرت مهام المستعربين بعد ذلك واتخذت أشكالا أشد عنفا، فلم يكتفوا بمدِّ الأجهزة الأمنية في إسرائيل بالمعلومات المهمة، بل تحوَّلوا هم أنفسهم إلى أداة في يد هذه الأجهزة لتنفيذ عمليات أقرب في طبيعتها إلى جرائم العصابات منها إلى سلوك المؤسسات الأمنية، وهو ما كشفته بعدئذ سلسلة من العمليات التي نفَّذها الفريق “الأمني” الإسرائيلي، الذي بزغ نجمه في أثناء الانتفاضة الأولى. شكَّلت الانتفاضة المحطة الأبرز لتسليط الضوء على عمل المستعربين، إذ استخدمتهم الأجهزة الأمنية بكثافة لقمع الفلسطينيين، فلعبت وحدة “الدوفدِفان” (Duvdevan) في الضفة الغربية، ووحدة “شمشون” في غزة، دورا رئيسا في العمليات الإسرائيلية آنذاك. وبالإضافة إلى الإجراءات الأمنية العادية مثل حظر التجوُّل ومواجهة المُحتجِّين بالعُنف وتقييد حركة السكان والبضائع، ظهرت ورقة المستعربين الذين ساعدوا قوات الاحتلال على اعتقال المُلثَّمين وأفراد اللجان الشعبية الذين قادوا الانتفاضة.
استعملت هذه الوحدات أربع تقنيات أساسية هي التنكُّر والتمثيل والاختراق والعنف. ويُقصَد بالتنكر والتمثيل طبعا التماهي مع المجتمع العربي في المظهر واللغة واللكنة المحلية، لا تقف أهمية التنكر عند تسهيله إيصال المستعربين إلى الأحياء الحساسة التي لن يجرؤ الجندي أو الشرطي الإسرائيلي العادي على الدخول إليها، بل تجاوزت ذلك إلى بثِّ الرعب والشكِّ في صفوف المجتمع العربي. وتُعزِّز تلك الأساليب من الصورة التي تحاول إسرائيل إرساءها عن نفسها دوما بوصفها الدولة الخطيرة المُتغَلغِلة والقادرة على فعل أي شيء لأن قدراتها غير محدودة ومتفوِّقة على أعدائها العرب، وهي صورة مُبالغ فيها كما أثبتت معارك عدة في فلسطين ولبنان مرات ومرات، بل وكما أثبتت أيضا فصول الصراع الاستخباراتي المُمتد مع إيران، ومن قبلها مع مصر أثناء حروب البلدين.
لقد أظهرت العديد من الصور وتسجيلات الفيديو كيفية عمل المستعربين، الذين كثيرا ما تحوَّلوا في ثوانٍ معدودة من متظاهرين يرمون جنود الاحتلال بالحجارة إلى رجال شرطة يعتقلون المُحتجِّين بعد أن يضع الواحد منهم قبعة “الشرطة” الإسرائيلية في لحظات. بيد أن الحديث عن “العنف” بوصفه أسلوبا من أساليب هؤلاء لا يقف عند هذا الحدِّ، بل يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك، والقصص في هذا الصدد كثيرة.
قتلة بدم بارد
في يوم الخميس 12 نوفمبر/تشرين الثاني، اقتحمت وحدة من المستعربين المستشفى الأهلي بمدينة الخليل جنوب الضفة الغربية لاعتقال شاب فلسطيني يُدعى “عزام عزت شلالدة”، الذي كان قد أُصيب برصاص المستوطنين قبل أسبوعين من ذلك اليوم. وقد دخل المستعربون المستشفى متنكرين على هيئة أسرة عربية تصطحب امرأة على وشك الولادة، ثم تجاوزوا قسم الولادة مُتجهين إلى قسم الجراحة لاعتقال شلالدة، وأثناء إتمامهم العملية قتلوا بدم بارد ابن عمه الذي كان قد انتهى لتوِّه من الوضوء لأداء صلاة الفجر، بعد أن حاول حماية شلالدة من هذه القوة الإسرائيلية التي أفصحت عن نفسها فجأة.
لم تكن تلك سوى قصة أخرى برهنت لنا على أن عمل وحدة المستعربين بعيد كل البعد عن منطق المؤسسة الأمنية التابعة للدول وأنها أقرب إلى “المافيا” التي تُحدِّد أهدافها وتُنفِّذها بعيدا عن سلطة القانون. وعلى المنوال نفسه، حدثت واقعة أخرى رواها هذه المرة زوجان يهوديان كانا في زيارة لأسرة عربية بإحدى قرى الضفة الغربية، وأثناء طريقهم صادف الزوجان مجموعة أشخاص يرتدون ملابس عربية يطلقون النار على مجموعة مُلثَّمين عرب كانوا يكتبون بعض الشعارات على الجدران. وقد ظنَّ الزوجان أن القضية تتعلَّق بصراع بين طرفين عربيَّين، قبل أن يتَّضِح أن المسلحين ليسوا سوى مجموعة مستعربين إسرائيلية.
لم يسعَ هؤلاء المستعربون -حسب رواية الزوجة- إلى إيقاف هؤلاء الشباب العرب، ولم يكلِّفوا أنفسهم عناء إطلاق طلقات تحذيرية، بل صوَّبوا أسلحتهم مباشرة تجاه الشباب، وصفُّوهم بدم بارد، تماما كما سبق وحدث في 22 مارس/آذار 1992، حينما دخل فريق من المستعربين إلى ملعب كرة قدم في “طول كرم” أثناء مباراة محلية باحثين عن شاب يُدعَى “جمال غانم”، وأطلقوا عليه النار مباشرة فسقط أرضا، ثم بدأوا في إطلاق النار تجاه مقاعد المُتفرِّجين من أجل إخلاء الملعب. (12) مجددا، حدث أمر مماثل سنة 1988 حينما توقَّفت سيارة مستعربين أمام محل لحوم لعائلة “الكردي” بمدينة غزة، فخرج الإسرائيليون المُتنكِّرون في أزياء عربية من السيارة واقتحموا المحل ثم اعتدوا على العاملين وأطلقوا النار عشوائيا قبل أن يصل حشد من الجنود والعساكر لإخراجهم من المنطقة.
نفَّذ المستعربون في السنوات الأربع الأولى للانتفاضة الأولى 45 عملية اغتيال، وقتلوا 74 فلسطينيا في الانتفاضة الثانية. (14) وسُمِح لهم بتنفيذ مهامهم مستخدمين أعلى درجات العنف لتحقيق أهداف دولة الاحتلال دون أن تخضع مهامهم السرية للمساءلة القانونية، بل وحرصت المؤسسات الأمنية الصهيونية على تسليط الضوء ولو قليلا على أهمية العنصر المستعرب داخل المنظومة الصهيونية، فقد كُرِّم 30 مستعربا من أصل 100 شخص حصلوا على أوسمة شرفية بين عامَيْ 2000-2009، مقابل الخدمات الجليلة التي قدَّموها لدولة الاحتلال وإقدامهم على تصفية شخصيات فلسطينية مُعيَّنة.
أنا لست أنا.. حكايات الحياة المزدوجة
ينقسم المستعربون إلى نوعين أساسيَّين: النوع الأول مستعربون يمارسون أعمالا عادية، ويتحرَّكون لاعتقال شخص مطلوب أو تصفية شخص تسعى إسرائيل لكبح نشاطه السياسي والاجتماعي، فيرتدون شعرا مستعارا ولباسا عربيا ويحملون أسلحة خفيفة، ثم يُنفِّذون مهامهم ويعودون إلى منازلهم في آخر اليوم، والنوع الثاني الأكثر إثارة هُم المستعربون الذين يذهبون للعيش وسط العرب فيخالطونهم ليل نهار لسنوات طويلة، حتى يكونوا عَيْنا حيَّة للمُحتل من داخل صفوف الشعب الفلسطيني.
مع تأسيس الوحدات الأولى للمستعربين، أرسل الإسرائيليون عددا من الجواسيس للاستقرار في بعض القرى الفلسطينية، إذ لفَّق هؤلاء الإسرائيليون حكايات دفعت أهل القرية لاحتضانهم، على اعتبار أنهم أبناء قرى مجاورة أو عرب ضلُّوا الطريق. وقد خضع هؤلاء الشباب (وتتراوح أعمارهم بين 18-20 سنة) لتدريبات وإعدادات صارمة ثقافية واجتماعية ودينية حتى لا يثيروا الشكوك، وواجهتهم مشكلة حقيقية بسبب اللهجة العراقية التي تحدَّث بها غالبيتهم، ولذا تمت الاستعانة بـ “موشي بيامنتا”، خبير اللهجة الفلسطينية الخليلية، الذي حرص على تعليمهم مفاتيح هذه اللهجة وإجبارهم على التحدُّث بها حصرا فيما بينهم حتى يتجهَّزوا لمهماتهم.
زُرِعَ هؤلاء الشباب في التجمُّعات السكنية الفلسطينية بالمدن والقرى داخل الأراضي المحتلة، وفي الفترة نفسها، بدأت ظاهرة تسلُّل اللاجئين الفلسطينيين الذين حاولوا العودة إلى أراضيهم، وكانت الشرطة الإسرائيلية تعتقلهم وتقتادهم إلى السجون، إذ قرَّر “الشاباك” استغلال هذه الهجرة المعكوسة لزرع المستعربين وسط الفلسطينيين بإدخالهم السجن بهدف إقامة علاقات مع الموقوفين من أهل البلد. أما المستعربون خارج السجون فعاشوا وسط المجتمع العربي، غير أنهم أثاروا النقاش في فترات معينة بعد مكوثهم حيال الزواج، فلم يكن طبيعيا ألا يُقدِموا على الزواج في مجتمع يتزوَّج فيه شباب كُثُر في وقت مُبكر نسبيا.
ولذا، قرر “الشاباك” منح الحرية الكاملة للمستعربين كي يتزوَّجوا ممن أرادوا. ومن ثم بات عدد من المستعربين أرباب أسر تتكوَّن من زوجات عربيات وأبناء يظنون أن آباءهم ليسوا سوى عرب مسلمين يكدُّون لكسب قوت يومهم، ويبدؤون يومهم بصلاة الفجر في المساجد وينهونه بصلاة العشاء، في حين أن رب الأسرة على حقيقته يهودي صهيوني يعمل لصالح إسرائيل وأمنها وشعبها.
عاش الكثير من المستعربين حياة مزدوجة، فهم صهاينة إسرائيليون لهم مهام محددة، لكنهم في الوقت نفسه أزواج لنساء عربيات داخل وخارج الأراضي المحتلة، ولديهم حياة ومهنة وأطفال على الأقل حتى حين. وقد ظلَّ هذا الملف طي الكتمان ومُحاطا بقدر كبير من السرية، حتى كشف الصحافي الإسرائيلي “يوسي ميلمان” عام 1998 عن معلومات وصلته من إحدى الجهات الرسمية حول ملف المستعربين الذين يعملون تحت “غطاء عميق” وتمكَّنوا من اقتحام النسيج المجتمعي العربي. وقد مثَّلت المعلومات صدمة ومصدر خجل للشاباك بسبب فظاعتها الأخلاقية. وبدورهم، جنح مستعربون آخرون إلى نهاية أكثر تطرُّفا، كما حدث في قصة العميل “مائير يتسرائيل”، الذي تقمَّص شخصية مُعلِّم فلسطيني مسلم تزوَّج بفتاة مسيحية فلسطينية، وبعد نهاية مهمته بين سوريا ولبنان ترك حياته المصطنعة دون إعلام زوجته وعاد لعيش حياته اليهودية في إسرائيل، وكذلك كما حدث في حكاية أشد غرابة لعميل صهيوني في الناصرة تزوَّج في الخمسينيات من فتاة فلسطينية وأنجب منها أطفالا، قبل أن يختفي بين ليلة وضحاها، فلم يظهر إلا عبر رسالة وحيدة أرسلها سنة 1967 من البرازيل وعاود اختفاءه من بعدها.
رغم فظاعة الوسيلة، فإن الإسرائيليين لم يبدوا أي ندم على تدمير حياة أسر كاملة تحت ذريعة “أمن الدولة الإسرائيلية”، وما زال مستعربون كُثُر يعيثون في أرض فلسطين فسادا، فيعتقلون ويغتالون بدم بارد، دون وجود أي بوادر في الأفق لحساب أو مساءلة قانونية أو ضغط دولي لوضع حدٍّ لذلك السلوك الإجرامي في تحقيق أهداف دولتهم المزعومة. في نهاية المطاف، ليس غريبا أن يصطنع المنتمون إلى إسرائيل حياة كاملة مزيَّفة لأنفسهم لا تختلف كثيرا عن العالم المُزيَّف والروايات الزائفة التي اصطنعتها دولتهم نفسها كي تجد لنفسها موطئ قدم على الخارطة العربية، وتدَّعي إرثا يسمح لها بحيازة الاعتراف الدولي.
————————————————————————
هوامش:
*البالماح: اختصار بالعبرية لـ”بلوغوت ماحتس” (سرايا التحطيم) وهي وحدة صهيونية كانت تحت إمرة بريطانيا وتكوَّنت من متطوعي الشباب اليهود. للمزيد من المعلومات، راجع الرابط هنا.
الجزيرة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.