أحلام ضَمّ “جنوب الليطاني” إلى “المشروع الصهيوني”

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لم يحجب القادة الأوائل للحركة الصهيونية عزمهم ضمّ الجنوب اللبناني للدولة الإسرائيلية المُزمع إعلانها عام 1948، وأضحى نهر الليطاني، الذي يبعد عن الأراضي الفلسطينية حوالي 48 كلم، معلَمًا للمشاريع الصهيونية التوسُّعية الخبيثة.

وعند إنشاء الكيان المزعوم منتصف القرن الماضي، لم يتوقّف طموح الصهاينة لدمج منطقة جنوب نهر الليطاني في عمق الدولة المُحتلّة. وقد انقَسَمت الآراء عندهم إلى تيارَين حول هذه المسألة، منهم من عارض سياقَ الضَمّ لأسباب سياسية وحفاظًا على مواقع وحيثيّات شعبوية، وحزبٌ آخر أيّد الخَيار، لا بل سعى إليه في المحافل الدولية، وعبر علاقات الصهاينة بجزء من أركان السلطة اللبنانية وأصحاب النفوذ داخل الدولة آنذاك.

تاقَ “الزعيم الأول” بن غوريون لتغيير الستاتيكو القائم في الشرق الأوسط، بغيَة إعادة هَيكَلة الوضع السياسي الراهِن في المنطقة، وتعبيدًا للطريق أمام التصميم الذي ينتهجُه مع قادة الكيان الآخرين، الذي يفضي إلى إحلال السيطرة السياسية للكيان الصهيوني على منطقة الشرق الأوسط ككُل، وإبعاد الخطر عن المخطّط الصهيوني ومسار بناء دولته وتثبيت مشروعيّتها واستحكامها على القرار السياسي لدى دوَل المنطقة.

مثّل بن غوريون، أول رئيس حكومة إسرائيلي، رأس الحربة في الترويج للمشروع المشؤوم. وقد دوّن في مذكراته مفردات العَتَب على الحكومة الفرنسية، التي “أخطأت” –حسب تعبيره- عندما وسّعت حدود لبنان، و”قضت” على فرصة إقامة دولة إضافية، صديقة لها، في الشرق الأوسط. لكنه في جانب آخر لم يُحبَط، بل أشار إلى وجود إمكانية لإصلاح الأمر، عبر ضَم نهر الليطاني بعد فشل جهود إقامة “دولة مسيحية” على الحدود الشمالية للكيان. بن غوريون هذا، عرض على السفير الفرنسي في اسرائيل (1956) ما أطلَقَ عليه عنوان “الخطوط العامة لتنظيم الأمور في الشرق الأوسط”، وهي إضافةً إلى الإطاحة بحكم جمال عبد الناصر وتقسيم الأردن وإبرام معاهدة سلام مع العراق، تهدف إلى تقليص الحدود اللبنانية، بحيث يتحوّل لبنان، ودائمًا بحسب بن غوريون، إلى دولة مسيحيّة مُصغَّرة.

التَقَطَ اللبنانيّون “إشارات” النيّة التوسُّعيّة للصهاينة، وتولّدت لديهم هواجس مُحِقّة حول تلك النوايا، وخصوصًا لدى أبناء الجنوب اللبناني، الذين شاركوا الفلسطينيّين والسوريّين والأردنيّين، والكثير من العرب، في حملة الدفاع عن الأراضي الفلسطينيّة على مدى عقود، وقاتلوا سويًا في الثورة العربية في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين. طبعًا رفض أهل الجنوب بأغلبيّتِهِم الساحقة رغائب العدو، وبعَثوا علامات إنكارهم المطلق لدولة الاحتلال، وعدم اعترافِهِم بها. وشكّل الوعي الجنوبي حافزًا لوجوب طرد هذا الكيان من الأرض العربية، وأن أصل المعركة مع هذا الكيان ليست معركة حدوديّة، أو صراع عقاري، إنما هو صراع وجودي لن يكتمل إلا بطرد المحتلّ الغازي عن أرضنا، التي سُمِّيَت فلسطين، والتي هي جزءٌ من القومية العربية التي تأبَهُ التقسيم والافتراق.

أما على جانب السلطة، فقد تورّطت شريحة من الزعامات داخل الساحة السياسية اللبنانية بالعلاقة مع العدو، وأظهر بعضهم سلوكًا استِعداديًا للمساعدة على تنفيذ المؤامرة الصهيونية، في مقابل المال والوعود البالية، كَحال لبنان المستمرّ حتى يومنا هذا.

انتهت فترة “تثبيت” أواصر الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية من دون تحقيق أهداف التوسّع شمالًا. ساهَمَ الحراك “الجنوبي” آنذاك بتكريس حالة رافضة لأصل وجود المستعمِر الجديد على أراضٍ عربية، وتكوّن الوعي السياسي للوقوف عقبة أمام الأحلام الوردية الإسرائيلية والمكائد التي تنوي بسطها في هذا القطر. وكان للسيد عبد الحسين شرف الدين في تلك المرحلة وما سبقها، منذ العام 1920، الدور الأبرز في صياغة الحراكَين السياسي والعسكري، وتصويب الوعي الجماهيري تجاه المخططات الصهيونية والنيّات الاستعمارية التي ستجثم على صدر منطقتنا للعقود اللاحقة.

على أعتاب ربيع العام 1978، غزا العدو الإسرائيلي جنوب لبنان، ولقّب الغزو بـ “عملية الليطاني”، في تعبير صريح عن مشيئة الوصول إلى أعتاب نهر الليطاني شمالًا، والسيطرة على كافة المنطقة الممتدة من الحدود الفلسطينية إلى النهر. وقد اجتاح العدو يومها حوالي 100 كلم مربع من الاراضي الجنوبية، ليتراجع بعدها ويستحدث “الحزام الأمني” بعمق 8 الى 10 كيلومترات داخل الحدود اللبنانية. طبعًا هذا التراجع تمّ بناءً على عدة عوامل أهمها التصدّي الذي واجَهَ الصهاينة وأدّى إلى خسرانهم الكثير من القتلى وقتَذاك.

وفي الاجتياح الشامل عام 1982، أطلق الغزاة الصهاينة اسم “السلام للجليل” على عملية الاجتياح، في إشارة واضحة نحو مخطّط السيطرة على منطقة الليطاني وجعلها منطقة “آمنة” لهم. أُظهرت تلك النوايا علانيةً على لسان قائد العمليات الاسرائيلية وزير الدفاع آرئيل شارون. وما أضمَره قادة الكيان في ذلك الوقت ما كان إلا استكمالًا لمشروع أسلافهم المؤسّسين.
أبلغت قيادة الكيان الصهيوني أركان الحُكم الدولي أن نواياها لا تجتاز التوغّل إلى منطقة جنوب الليطاني، والاكتفاء بهذا الموضع، لكن الطمع الصهيوني، الذي اصطُحِبَ بدعم أميركي غير محدود، جعل الجيش المُعتدي يصل إلى مشارف العاصمة اللبنانية بيروت.

الحلم الاسرائيلي العابر للأزمان تحطّم من غير رجعة عام 2000، عندما أَجبَرَت المقاومة كيانه على الهروب والاندحار رغمًا عن مشاريعه “الفاتنة”. انكَسَر حلم ضم الليطاني، لكن العدوّ المتربّص ما كَلَّ يومًا عن التخطيط لتنفيذ حلم التوسُّع والسيطرة على كافة موارد المنطقة، جوهرها المورد المائي الذي يغتني به لبنان بشكل عام، وبالأخصّ جنوبه الصلب. وفي شهر تموز قبل 17 عامًا، تمرّغ أنف “الدّمج” بالتراب، وأُرسِيَت معادلة الردع التي جرفت ما تبقّى من حلمٍ يجوب عقول المسؤولين الصهاينة الخائفين على مصيرهم الوجودي. فبَدَلَ ضمِّ الجنوب اللبناني، ها هُم زعماء “الشعب المختار” يتخبّطون هَلِعين مما يحضّره لهم حزب الله في أي معركة قادمة، بعدما انحنى جبروتهم تحت الركام. “إسرائيل” التي أرادت ضَمَّ الجنوب اللبناني لمشروعها يومًا، تمتنع اليوم عن ضخّ الغاز من حقل كاريش، الذي تستولي عليه من الشعب الفلسطيني، خوفًا من “معادلة البحر” التي وضعها الأمين العام لحزب الله. صحيحٌ أن حلمهم بالتوسّع لم ينتهِ، ولن ينتهي يومًا، إلا أن همّهُم الجلَلَ صار المحافظة على هيبتِهِم بين الأمم، وتوطيد هالتِهم المترهّلة. ويبقى زوالهم أمرًا حتميًّا، أقرب من أي وقتٍ مضى.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد