تسمّرت العيون على المسرح بعد أن لفّتها الأناشيد باللهفة للعرض الذي به ستُختتم فعاليات “الأربعون ربيعًا”. وزاد الشّوق من عطش البصر كي يرى أربعين عامًا في مشهدية حوَت الحنين الحيّ ولملمت من كلّ جيل أجمل ما فيه وأنبل.
الجيل الذي عاصر البدايات في ٨٢، وبعضه كان شريكًا في صناعتها، جاء بكامل عتاد الحنين. سبقه الدّمع إلى الشاشة كأنه بماء العين ودّ لو يلامس الزمان الذي ما انقضى، والذي أسّس لجسرِ العبور إلى زمن الانتصارات.
أمّا مواليد الثمانينيات، فمنهم مَن بدت على وجوههم تلك المباهاة الرقيقة بأن تزامن ميلادهم مع ميلاد حزب الفتية الذين “آمنوا بربّهم” ومنّ عليهم بأن نمَا إخلاصهم فـ”ما كانَ لله ينمو”، وصاروا مصداق “ألا إنّ حزب الله هم الغالبون”، ومنهم من تحدّث حياء وجوههم عنهم، عن ذاكرتهم التي تشكّل جزءًا أصيلًا من الضوء الناطق بمسيرة الأربعين حبًّا، وحدّثت دمعاتهم عن شوق يحزّ قلوبهم إلى إخوة لهم فازوا وما عادوا.
أبناء تسعينيات القرن الماضي، الذين شهدوا على معركة تموز ٩٣ وحرب نيسان ٩٦ وعلى بيانات إعلان المقاومة الإسلامية عن عمليّاتها ضد مواقع الاحتلال وعملائه، من بينهم من يحمل عبق جبل صافي، ومن ما زال مكسوًا بعطر آخر ضمّة قبل أن يمضي أخ استشهاديّ إلى عليائه.
جيل عام التحرير ٢٠٠٠ وحرب تموز ٢٠٠٦ حضر بكلّ عتاده من عزّ، بكلّ ذخيرة مشاهد التحرير وبكلّ ذاكرة الاقتحامات في عيناثا وبنت جبيل ومارون الراس وعيترون. حضر ولم تزل كلمات كـ”الحمد لله لي تحررنا” عند بوابة التحرير و”فِدا المقاومة” في ضاحية العزّ ترافق أيّامه، وترتبط بوعيه ارتباط السنبلة بالتراب المحرّر.
وجميعهم، عاصروا وعاشوا وتابعوا خطوات رجال حزب الله ضدّ الإرهاب التكفيري، ممّن تشرّفوا بالقرابة من قمر عاد من الشام على صهوة نعش ملفوف بالراية التي بلونها تتلوّن الشموس، ممن عرفوا النبل المرفوع قربانًا كي لا تُسبى زينب مرتين، وكي لا يمسّنا من ضرّ التكفيريين سوط نار أو نصل ذبّاح، وكي لا يُطاف بأعراضنا في أسواق السبي. جميعهم ذرفوا ناحية الشام قلوبهم وهم يدعون في جوفِ اللّيل أن يا ربّ العزّة خذ بأيديهم القابضة على السلاح، فهم رجالك وأنت الرامي. وبعض من هذا الجميع كان هناك، وعاد شهيدًا حيًّا في قلبه حسرة، وفي عينيه كلّ اليقين.
هذا الحضور الهادر بالحبّ ليس جديدًا على أي احتفالية عامّة يقيمها حزب الله في أيّ مناسبة. هو حشد أهل المقاومة حول نواتها، وهو التجمّع الأكثر ارتباطًا بقيادته بروابط الحبّ والوفاء والانتماء. ولذلك، كان متوقّعًا أن يكون الحضور آتيًا بلهفة إلى موعد عشق وإلى ساحة اعتاد فيها أن يرفع القبضات الولائية ويهتف بكلّ صدقه بشعارات المقاومة.
انساب الضوء على المسرح، ملأ الأعين، لفّ القلوب، لامس الأرواح آخذًا بيدها في رحلة الأربعين جهادًا وصبرًا وإيثارًا وشهادة ونصرًا، على جسر العبور من زمن “العين لا تقاوم المخرز” إلى زمن الانتصارات.
حضر الشيخ راغب حرب، ببياض عمّته النقيّة. تشكّلَ صورة من ضوء، وصوتًا يعبر الوقت. والسيّد عبّاس وقف أمام المشتاقين بإرثه الحسينيّ الشريف، كأنه يتحنّن بعينيه الصادقتين كالسيف على قلوب الأحبّة. أما الحاج عماد، فعاد في تشكلّات النور عسكريًا مسلّحًا بالروح، مخاطبًا جيش الصادقين بصوته الساكن بين نبضات العشّاق.
بكى الناس، وكلّ حبّ يُنطق بالدّمع يُكتبُ خالدًا. استجمعوا كلّ نقائهم في صيحات تنادي الأحبّة أن “اشتقنا”، تحمد الله الذي أنعم عليها بقلوب طهّرها الفقد وأعزّها المجد الغالي، وتشكر القيّمين على العمل ولا سيما المهندس الثقافي، بل الضابط في الحرب الثقافية الحاج محمد كوثراني، ورئيس وحدة الأنشطة الإعلامية في حزب الله سماحة الشيخ علي ضاهر، وكلّ فريق العمل.
وعلى وقع هذا القدر من الحماسة الولائية ومن العزّة الثوريّة ومن اللهفة، أطلّ وجه الأمين الحبيب السيد حسن نصر الله على الشاشة العملاقة. ما سمعناه في تلك اللحظة لم يكن فقط صوت الحناجر الحاضرة الموالية الوفية، بل بدا كأن كلّ أهل الأربعين احتشدوا عبر الزمان وقالوا بنبضة واحدة “لبّيك يا نصر الله”. صوت الشهداء الذي عرفناه في وصاياهم المسجّلة هادئًا ملائكيّ السّمات مرّ في لحظة حضور شيبة السيّد على هيئة صيحة تتفجّر بما حوَت من الشوق والعشق. الندوب وعلامات القتال نطقت من على أجساد الجرحى، حدّثت السيّد في صيحة “لبّيك” عن تشافيها بالنصر. عوائل الشّهداء استحضروا الغوالي في حروف الكلمة. كأنّ أصواتهم صارت حاملة صوت الحبيب الذي لم يعد. أمكن للقلب أن يلمح في الصوتِ الهادر أطياف مفقودي الأثر، وهم يمرون بعجلة كي يتركوا في الجمعِ عطرهم يهتف لسيّد النصر ويقول له “على العهد باقون”.
وبعد، أبجدية النصر كانت حبكة اللغة السحرية بين الناس ومقاومتهم، بين أهل النصر وصنّاعه، بين حمّالي الوجع الأبيّ وحماتهم، بين الصابرين أهل البصيرة وحزبهم، حزب الله.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.