عن ثقافة الحياة والموت

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

يوسف سويدان – خاص الناشر |

عند كل مفصل واستحقاق أو ربما حادثة عابرة متكرّرة في هذا البلد، يطالعنا الخصوم، وأقصد خصوم المقاومة، بالحديث عن ثقافة الحياة وثقافة الموت، ونكون مضطرين لأنّ نسمع اتهامات وسخافات باطلة مضمونًا وشكلًا وتحتوي على مغالطات وجهل كبير ومصادرات فكرية خطيرة. ولكن هذه المرّة اضطرّ هؤلاء الخصوم مع البيان الكلامي لأن يقدّموا لنا “مشاهدات حيّة” عن ثقافتهم، ثقافة الحياة كما يطيب لهم القول. ولولا القانون والفرامل الذاتية وليس “العيب والحياء” لاستمررنا برؤية الجنون والبشاعة حتى سمعنا من أوساطِهم ما مضمونه عبارة “له يا عمي مش هيك!”.

كلام إعلامي وحملة كبيرة وتصدّر تريند مواقع التواصل وبردّ فعل لا ينتظرونه بكل الأحوال، على فيديو مفبرك لمعمّم مدّعٍ مسيء، تلقّفوه وانطلقوا بحملةِ غوغائيةٍ وجهل شعارها أنّهم هم يمثّلون ثقافة الحياة والآخرون عندهم ثقافة الموت. وعلى رأس الحملة إعلاميون وصحافيون من الصف الأوّل مشاركون بالتصويب مباشرة على بيئة المقاومة مستهدفين هويتها الدينية والثقافية مع الإصرار على أبلستها بشكل بغيض غير عفوي أبدًا. إساءات لا يغفرها توضيح من هنا أو مسايرة من هناك، ولا محو تغريدة أو تعليق. ومن يظن أن جمهور هذه البيئة فقط هو المستهدف بات غبّيًا، لأنّ مستوى الكراهية بات يستفز كل شخص محافظ بالحدّ الأدنى على منسوب الأخلاق والقيم والأدبيات البديهية عنده.

من المعلوم أن هذه الحملات ليست جديدة وطارئة، بل بدأت منذ أن قرّرت المقاومة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بالعمل العسكري الحثيث. وكان الآخرون بالمقابل ينكّسون راياتهم ورؤوسهم خاضعين ومعتبرين بعدم فعالية العين في مقاومة المخرز. وبدأ بعدها نسج الرواية المقابلة التي حاولت تسخيف الخلفية الثقافية للمقاومة ومرتكزها الديني محاولين شيطنتها وإبعادها عن الهوية الوطنية، وصولًا إلى مفترق كل مواجهة عسكرية كحرب تموز والحرب الكونية في سوريا، وكل احتكاك عند الحدود الجنوبية مع فلسطين، حيث تطالعنا عبارات “بدنا نعيش” و”اتركونا نتنفّس”. وعندما كانت تعود جثامين الشهداء الطاهرة من معارك الشرّف في مواجهة المجموعات التكفيرية كانت توصف بتوابيت الموت! وليس ببعيد انتشار شعار مقصود عنوانه “نحنا منحب الحياة”، وكأنّ الحياة ماركة مسجلة او براند تجاري لا يطاله الجميع، حتى وصل الحدّ إلى استهداف رموز وقيم التضحية والشهادة ومدرسة عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام لدى الشيعة.

ولكي لا نطيل فالناس شاهدت وسمعت الكثير من هذه الشعارات والإساءات، المختلف الآن أنّها تشنّ في ظلّ العقوبات والحصار والأزمة الاقتصادية في لبنان، فيُراد أن يقال إن هذه الأزمات يتحمّلها جماعة الموت، جماعة المقاومة “خنقونا، عزلونا، رجعونا لورا”، ومع اتيكيت: “جرّصتونا قدام الأجانب”. هذه الحملة يشارك فيها أحزاب وأيضًا فئات ما يسمى المجتمع المدني المعلوم برنامجها الأساسي وهو تسخيف وإزالة القيم الدينية بالشكل النّاعم، بحجّة الطائفية وفصلها عن السياسة كما سمعنا على لسان أحدهم من المرشّحين الجنوبيين الذي يعلن صراحةً عن أفضلية نزع الحجاب بمفهوم ديمقراطي.

ثقافة الحياة يمثّلها من يصنع الحياة ويعيها ويعمل للحياة الأوسع التي تتّسع باتساع الأفراد والجغرافيا. إذا أردنا أن ندخل في هذا النقاش سنصل لمكان تحتاج فيه لأن تقدّم مفهوم الحياة والآخرة والمنظومة القيمية. ولذلك أفضل تعبير عن هذا المعنى ما قاله سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله في مناسبة عملية الاستشهادي صلاح غندور المباركة بتاريخ ٢٥ نيسان ١٩٩٥ حيث قال “لا نطلب الموت للموت، الموت بالنسبة إلينا طريق حياة، الموت بالنسبة الينا طريق صنع حياة للأمة، الموت بالنسبة الينا سلاحٌ لا نقذفه في الهواء، وإنما نقذفه في صدر العدو..”.

أمّا من يعيب علينا الشهادة، فهو ذاته يتغنّى مثلًا بالبطل المضحّي في الفيلم الأميركي، وهو ذاته لاحقًا يزايد بالمقاومة وبالشهداء. صعب جدًا أن تقنع أحدهم بالخيط الرفيع ما بين الحياة المنشودة السعيدة التي يريدها وما بين الخضوع والعيش كما يريد لك الآخرون. الحياة هي عندما تريد أن تقرّر أنت كيف تريد أن تعيش حياتك، لا أن يضع لك الآخرون أسلوبًا لحياتك ومعايير تصبح منقادًا لها بشكل أعمى ومستعد للمساومة على قيمك ومبادئك وحتى وطنيتك ودينك في سبيلها.

عناصر هذه البيئة مليئون بالحياة. ذلك الذي كان يعيش بين الوديان والجبال مطاردًا المحتلّ، كان يعود لمقاعد الدراسة ويتخرّج من جامعته ويتقدّم. وآخر كان يبني بيته مثلًا وعند أول نداء يلتحق بالجبهة ولا يعرف إن كان سيعود أو لا، أو ذلك الذي يتزوّج ويهبّ للذّود عن أهله ووطنه ويعود شهيدًا.

ونضطرّ أن نكرّر أن هذه المقاومة مبتكرة خلاقة، طلابها متفوقون، رجالها مبدعون، نساؤها متواجدات بقوة. لم يتركوا ميدانًا لم يدخلوا إليه بالطبّ والصحة والتعليم والعلوم والهندسة والصناعة والطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة والمؤسسات والإعلام والسياسة… وهم أنفسُهم في حين يعيشون دنياهم ويعمرونها ويتطلّعون للكمال الاجتماعي وتمام العدالة ورحب الحياة الطيبة باستنفاد كل الطاقات، أي طلاب دنيا وحياة، بذات الوقت مستعدّون لخوض اللُّجج والصعاب والتحدّيات وبذل المال والأنفس والدماء بيقين عالٍ أنّهم يضعونها في سبيل الكلّ مطمئنين هانئين.

سيضطرّ للأسف جمهور المقاومة وكل شرفاء لبنان، أيًّا تكن طائفتهم ومذاهبهم، أن يسمعوا وصولًا للاستحقاق الانتخابي في ١٥ أيار قذارات كثيرة من هذا النوع ويتحمّلوها في صدورهِم، ويردّوا الجهل بالتغاضي وأيضًا بالتبيين والكلمة.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد