يمرّ التاسع والعشرون من شهر كانون الثاني من كل عام بخجلٍ غاضب، اليوم نفسه الذي استطاع فيه حزب الله، بدبلوماسيّة رجاله، وأبرزهم الشّهيدان القائدان الحاج عماد مغنيّة والسيّد مصطفى بدر الدين، مَن تعرفهما “إسرائيل” جيدًا في ساحة المعركة، وعرفتهما أيضًا في ساحة التفاوض، مستعيدَين الدفعة الأكبر من الأسرى اللبنانيين، مع كشف مصير ٢٤ مفقودًا، إضافةً لتحرير مئات الأسرى الفلسطينيين وآخرين عربًا، وأوروبيّ ألماني.
لا يأخذ هذا اليوم حقه، على الرغم من ارتباطه ارتباطًا جميلًا بذاكرة المقاومة، ربّما لتبدّل أولويات البعض، أو لسوء فهمه للربط بين الماضي والحاضر، فالسيّد الذي وعد في ٢٠٠٤ بالخيار الثالث واستعاد سمير القنطار من فم التنّين، هو نفسه السيّد الذي وعد بالنصر أمام الحملة الأميركية على لبنان، وسينتصر.
في حزيران ١٩٩٤، وعشية عيد الأضحى، اختطفت قوة كوماندوس إسرائيلية مصطفى الديراني، أحد قادة ما كان يُعرف بالمقاومة المؤمنة، من منزله في قصرنبا البقاعية. وشاءَ الله، لإذلال العنجهية الصهيونية، أن يعود الديراني إلى منزله نفسه في قصرنبا، أيام عيد الأضحى كذلك، ولو بعد عشرة أعوام من الأسر والصبر. الديراني الذي كان الورقة الملك في ملف الطيار رون أراد، والذي امتنع شارون عن التفاوض عليه بدايةً، خرج في ذلك التبادل، الذي انعكس لاحقًا فشلًا في الردع الإسرائيلي حتى في التفاوض.
وإضافةً إلى الديراني، حمل ذلك التبادل اسم إمام بلدة جبشيت الجنوبية، الشيخ عبد الكريم عبيد، والذي حاول الاحتلال ربط اسمه أيضًا بملف رون أراد كأوراق قوّة في اليد الإسرائيلية، بيد أن عصا حزب الله في شبعا كانت أقسى من تلك اليد، الأمر الذي اضطرها إلى تسليم ورقة الشيخ عبيد إضافةً إلى الديراني، لتفقد “إسرائيل” بذلك أهم ورقتين في هذا الملف.
ومن الأسماء التي حملتها تلك الصفقة، جواد قصفي، والد جميلة قصفي، طفلة الصبر، وأفضح نماذج الإجرام الإسرائيلي والنفاق الدولي، يتيمةٌ بأسر أبٍ لم تعرفه إلا بالصّورة، ليعود إليها في مرقدها، يبث إليها شكواه من عدوٍ لا ولن يعرف إلّا لغة الرصاص والقنابل والصواريخ.
صبغةٌ أخرى حملها ذاك التبادل، لمجاهدَين، خرجَا من الجهاد إلى الجهاد مجددًا، فوزي أيوب، الاسم المستعار لرسُل حزب الله إلى الانتفاضة في فلسطين، والذين لم ينقلوا الخبرة والمتفجرات، بل نقلوا “الكاتيوشا” يومًا كما قال السيّد، الكاتيوشا التي كانت رمزًا مرادفه “كريات شمونة”، حملها وأشياء أخرى فوزي أيّوب وآخرون لم نعرف منهم إلّا محمد منصور “سامي شهاب” لاحقًا.
أمّا المجاهد الثاني، فهو فادي الجزّار، الأسير لعشرة أعوامٍ وثلاثة أخرى قبل أن يعود هو الآخر إلى ميدان الحرب بشيبةٍ واسمٍ جديد، “أبو زينب”، وله حكايا أخرى تحتاج وحدها سردًا خاصًا.
من المُعيب أن يمرّ هذا اليوم مرورًا خجولًا، رغم مرور كل هذا الوقت. إن كان للبنانيين فخر، فهو أنّهم من أول بلد هزم “إسرائيل”، وأنّهم من حرروا أسراهم من سجون الاحتلال، باستثناء يحيى سكاف، رفيق المناضلة الفلسطينية دلال المغربي في رحلتها الأخيرة. وإن كان لهؤلاء اللبنانيين عزّ، فهو ببندقية المقاومة الإسلاميّة التي انتزعت حرية الأسرى بالقوة عنوةً عن كيانٍ مستندٍ إلى دعم القوى الكبرى في العالم، ومن المُعيب لجيلٍ، يتقاتلُ في أتفه الزواريب، وعلى أبسط المسائل، أن لا يعرف هذا اليوم حقّ معرفته، لتقصيرٍ ما هنا أو لغباءٍ هناك!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.