عملاء في قبضة القانون

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في العتمة التي غمرت معظم مشهد الأحكام القضائية في ملف العملاء منذ التحرير عام ٢٠٠٠ إلى اليوم، ثمّة أحكام جاءت كشمعة تضيء وجه كلّ من تضرّر ومن تألّم ومن طاله أو آذاه يومًا بطش العملاء. هي أحزانٌ لا تنقضِي بانقضاء الزمن القانوني، وهي أوجاع لا تُزيلها مسكّنات المماطلة وعمليات الضغوط الآتية عبر الهواتف الديبلوماسية، وهي أحكام تثبّت الحق في موضعه، وتجبر كسر قلوب أعياها الظلم مرتين: مرّة حين صفعها العميل الجبان كوكيل للاحتلال، ومرّة حين تمكّن العميل لسبب أو لآخر من استكمال حياته دون عقاب على ما ارتكب.

بعد صدمة تهريب عامر الفاخوري التي توجت مسارًا من صدمات في طريقة تناول القضاء اللبناني لملف العملاء والتي جاءت بعدها قضية العميل جعفر غضبوني الذي لم يجد القضاء مبرّرًا لتوقيفه رغم عمالته المشهودة فأطلق سراحه مكتفيًا بحجز جواز سفره اللبناني (وترك له جواز السفر الأميركي)، برز يوم الأمس حكم قضائي صادر عن المحكمة العسكرية برئاسة العميد منير شحادة قضى بحبس كلّ من العملاء جمال ريفي وأمين بيضون ومارك طانيوس. الأوّل، وهو شقيق أشرف ريفي الغني عن التعريف، هو طبيب يعيش في استراليا ويبدو أنّه لم يكتفِ بخيانة وطنه بل واستخدم مهنته لتسهيل هذه الخيانة. حكمه هو عشر سنوات من الأشغال الشاقة، وقد استدعى هذا الحكم غضبًا عارمًا من جانب أخيه، الذي بدلًا من أن يخجل ويسارع إلى التبرؤ من أخيه الذي ثبتت عمالته للعدو الصهيوني، ولو على سبيل احترام الناس والمفاهيم، شنّ هجومًا اعتبر خلاله أنّ أخاه، المدان بالعمالة، هو مناضل عروبي فبدا أن مفهومي النضال والعمالة قد اختلطا لدى أشرف ريفي حتى باتا واحدًا!

أما أمين بيضون، الذي عاد من أميركا مطمئنًا إلى انقضاء المدّة، متبخترًا بجواز سفره الأميركي، واثقًا بقدرة عوكر على التأثير بالقضاء، فما مرّ بباله أن ليس كلّ من يصله هاتف بلكنة أميركية آمرة يخضع، وأن ليس كلّ القضاة يضحّون بشرفهم المهني على مذبح الرضا الأميركي أو غيره، فنال خمس سنوات من الأشغال الشاقة بعد أن جاء بكلّ وقاحة ساعيًا إلى إقامة ممتعة في ربوع أرض تعرف جيّدًا ما ارتكب ان كان يظنّ أن الأرض تنسى.

هذا العائد على متن جواز السفر الأميركي، كان يستحق عقوبتين بدلًا من واحدة: فجريمته قبل الهروب كانت العمالة المشهودة، وأضاف إليها بعودته جرم الوقاحة والاستخفاف بما ارتكب، بل الاستخفاف بالجهة التي من واجبها معاقبته.

والثالث، حكاية مختلفة. ارتكب مارك طانيوس ما يفوق الخضوع للعمل الجاسوسي بشاعة. لقد قام ببساطة بمراسلة الصهاينة ليعرض عليهم خدماته. وقد تعاطى مع فكرة التواصل مع العدو ومع الخيانة كوظيفة أو كمجال مهني يتقدّم إليه من يجد في نفسه المؤهلات المناسبة لها. والتعامل مع فكرة الخيانة على هذا النحو هو أمر أشدّ خطورة من الخيانة نفسها، إذ قام المدعو مارك بخطوة إلى الأمام في مسار سفالة اعتبار الخيانة وجهة نظر، وجعلها “وظيفة” أو مهنة. والأخطر أنّه وجد في نفسه ما يؤهله للقيام بها ولم يجد ما يردعه عنها. سنتان من الأشغال الشاقة قد تكونان كافيتين ليبحث مارك عن موانع أو روادع أو أسباب تجعله يخجل من نفسه، وقد تكونان رسالة إلى آخرين يجدون في أنفسهم مؤهلات كتلك التي وجدها مارك ليراسل العدو عارضًا خدماته، فيرتدعون قبل فوات الأوان.

في ظلمة الأزمة، أضاء الحكم القضائي الذي قضى بحبس عملاء ثلاثة جانبًا من أيامنا، وأثبت قدرة القضاء على اتخاذ قرار متحرّر من الضغط السياسي ومن القيد الأميركي، وأكّد أن هذا القرار لا يتطلب أكثر من قاضٍ ذي شرف مهني يأبى العار، ويجيد قول لا لأميركا، ولا لكلّ سياسيّ يسمّي العمالة نضالًا، ويُسمى باسم ليس فيه سوى عكس صفاته.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد