حتى لا يضل التاريخ (1): في ضيافة شجرة الرمان

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

فليسمح لي الإخوة رجال الله بأن أروي هذه القصة عن إحدى المجموعات المتقدمة التي كانت تنتظر ومئات من أمثالها لحظة بداية الهجوم البري الصهيوني لتلتحم مع أفراد العدو التحامًا استشهاديًا يمتص الصدمة الأولى للهجمات، لتتولى السرايا والكتائب الأخرى مهمتها في الإجهاز على الهجوم وسحقه. وقد جرب العدو طعم هذا التكتيك في معركتين افتتاحيتين وتكبد خسائر فادحة دون أن يتمكن من التقدم أكثر من عشرات الأمتار ليتلقى بعدها عدة ضربات رئيسية جعلت من جنوده ودباباته عناصر حقل رماية للرجال الرجال.

تلك المجموعة المؤلفة من ثلاثة أفراد من احتياط المشاة، وكان أفرادها من المنضوين إلى سرايا “الاستشهاديين”، كانت قد التحقت بالجبهة آتية من بيروت بعد وقف إطلاق النار الذي أعلنه العدو من جانب واحد بعد مجزرة قانا في آخر أيام شهر تموز ٢٠٠٦ . كان الشباب الذين يلوكون الكمد تحت غارات الطائرات المكثفة على بيوت أهاليهم في الضاحية، يتحرقون شوقًا للصعود بأي طريقة إلى الجبهة في جبل عامل، وكل لبنان وقتها أصبح جبهة.

المهم أثناء انتقالهم على طريق الساحل وقبيل وصولهم إلى الجية بقليل مر بهم موكب عرس آتٍ من الناعمة ومتجه نحو صيدا. تفاجأ أحد الشباب بهذا الموكب وخشي عليه من الاستهداف، وأخبر رفيقيه بتوجسه، فأخذا يضحكان ويمازحانه حول حنانه وقلبه المرهف، وقال له أحدهما: انتظر قليلًا لنصل إلى صيدا وسترى العجب.

وصل الإخوة إلى صيدا فوجدوا على مدخلها الشمالي مجموعة من رواد ورائدات البحر بثياب البحر مع بعض الاحتشام الذي يمكن أن تحسبه غطاءً للجسم. كانوا يخرجون من أحد محلات الحلويات المشهورة ويأكلون البوظة العربية ناظرين إلى العيون التي تنظر إليهم باستغراب.

تابع الشباب سيرهم إلى صيدا المزدحمة بالناس والسيارات، وهناك صدموا بالمشهد على مفرق ساحة إيليا حيث وقف شرطي سير وبيده دفتر المحاضر ويصفر للسيارات التي كانت تتجاوب مع صفارته وكأن هذه الصفارة عصا ساحر.

أكملوا طريقهم باتجاه الزهراني، وهناك بدأوا يعاينون الموت في سيارة محترقة بصاروخ هنا ورائحة الموت القاتلة من دماء متحللة هناك، وكلما تقدموا جنوبًا ازدادت الطريق وحشة ومشاهد القتل ترويعًا حتى وصلوا إلى المقصد حيث جرى نقلهم ثلاثتهم حسب توصيفهم إلى نقطة كمين “مؤقت” يسمى بمصطلحات المقاومة كمينًا تعطيليًا أي إنهم أتوا كما المئات غيرهم لمهمة استشهادية.

كان التقدير أن مقامهم في النقطة لن يطول أكثر من ٥ أيام. وجرى توديعهم على أنهم لن يعودوا أحياء في حال أقدم العدو على ارتكاب حماقة العملية البرية.

عمومًا بعد أربعة أيام من تموضعهم في الكمين تم إبلاغ الإخوة أن تطورًا طرأ على منطقة العمل التي يتموضعون فيها يفرض عليهم البقاء في أمكنتهم حتى نهاية الحرب، وطُلب منهم الاقتصاد ما أمكنهم بالغذاء حتى يتم تامين غذاء إضافي وأُمروا بالتزام الصمت اللاسلكي حتى إشعار آخر.

أخذ الإخوة يفتشون عما يمكن أن يقيم أودهم بعدما تبين أن الغذاء الموجود لن يكفي لأكثر من أسبوع، فقرروا التصرف. وبعد بحث في المحيط وجودوا شجرة رمان فيها ما لا يقل عن ٥-٦ كيلو غرام، فقرروا قطاف ثمرها كله واعتماده غذاءً إضافيًا يكفي مع الغذاء الموجود لاثني عشر يومًا.

في اليوم التالي أغلقت المنطقة نهائيًا بفعل غارات العدو الجوية والتمهيد المدفعي وبدأ زمن انتظار العدو يتقلص حتى بلغوا اليوم الثامن، وظهر واضحًا أن اللحظة أزفت، إلا أن العدو الذي تعرض يومها لضربات قاسية في عدد من المحاور قرر أن يتخلى عن الاختراق في معظم محيط منطقة كمين الإخوة وفضل أن يغرقه بالنار ويعزله نهائيًا.

عندها وصل دور الرمان أنيسهم الجديد وغذاؤهم المادي إلى جانب غذائهم المعنوي الذي كان وافرًا جدًا بقراءة القرآن والأدعية الرجبية والصلوات المستحبة ومجالس العزاء التي كان أحدهم يتقن قراءتها.

وبعد أيام عامرة بالروحانية وأكل الرمان، سمعوا أول نداء يخرق صمتًا استمر لأيام “تحياتنا إلكن يا شباب. طيبين الرمانات؟ إن شاء الله ساعة وبنطل صوبكن وبنسحبكن. مبروك الانتصار “.

كان ذلك صباح الاثنين ١٤ آب ٢٠٠٦ ، وكانت إحدى نقاط التأمين ترى من بعيد ما اجترحه الشباب لزيادة غذائهم، علمًا أن المشرف على النقاط الذي يخبر المنطقة جيدًا كان قد توقع منذ اللحظة الأولى أن الشباب سيختارون الرمان لزيادة غذائهم، وصدق ما توقعه. ولاحقًا علموا أن محاولتَي تزويد لهم وللكمائن الأخرى بالغذاء قد استهدفهما العدو وتسببت الثانية بجراح خطيرة للناقل تعافى منها بعد سنوات.

هؤلاء هم من شروا الآخرة بالدنيا فانصاعت لهم رقاب العدو، وكل الجبابرة جاعوا وعطشوا وعانقوا الموت والسهر.

ذكرت هذه القصة وكتبتها يوم علمت أن أحد أبطالها قد علق بين الناعمة والجية مع الآلاف من الناس في سياراتهم، يتحكم بهم قاطع طريق متوسط في السن يدير مجموعة صبية.
واستطرادًا، الله العالم إن كان قاطع الطريق هذا أحد الذين كانوا يطلقون العنان لأبواق سياراتهم ابتهاجًا بالعرس المنطلق نحو صيدا ذات يوم من أيام الدم في تموز ٢٠٠٦.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد