الزيارة السورية إلى موسكو: بحث عن مظلّة روسية وتوازن ميداني مفقود

17

في خطوة تحمل دلالات استراتيجية تتجاوز الطابع البروتوكولي، جاءت الزيارة الرسمية إلى موسكو بطابع “شرعي”، مترافقة مع طلب صريح سوري بإعادة انتشار الشرطة العسكرية الروسية في الجنوب السوري، بحجة الحدّ من الهجمات الإسرائيلية المتكرّرة، وطلب دعم روسي إضافي لإعادة ضبط الإيقاع الأمني في البلاد.

هذه الزيارة، وإن بدت في ظاهرها مسعى أمنيًّا، إلا أنها في العمق إشارة سياسية إلى رغبة دمشق في استعادة الدور الروسي كضامنٍ ميداني واستراتيجي، بعدما تراجع حضوره بفعل انشغال موسكو بالحرب الأوكرانية، وما رافقها من انكفاء جزئي عن الملف السوري.

عودة الدور الروسي: توازن مطلوب لا غنى عنه
الطلب السوري بإعادة نشر الشرطة الروسية يعبّر عن اعتراف واضح بأن موسكو لا تزال تمثّل الطرف الأقدر على كبح “إسرائيل” ميدانيًا وسياسيًا، خصوصًا في ظلّ غياب بدائل حقيقية قادرة على فرض معادلة الردع. فروسيا –رغم انشغالها– ما زالت تمتلك شبكة انتشار واتفاقات ميدانية مع مختلف القوى داخل سورية، إضافة إلى قنوات تواصل مباشرة مع تل أبيب تتيح لها ضبط إيقاع الضربات الإسرائيلية متى شاءت.

من هذه الزاوية، يمكن القول إن دمشق تسعى إلى إعادة التوازن عبر البوابة الروسية، لتجنّب انزلاق الجنوب إلى فراغ أمني، أو تحوّله إلى ساحة مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي.

الانعكاسات الأمنية والميدانية
الطلب السوري يعكس واقعًا ميدانيًا هشًّا في الجنوب السوري، حيث تراجعت قدرات الردع المحلية وازدادت وتيرة الغارات الإسرائيلية في ظل غياب المراقبة الروسية المباشرة. وبالتالي، فإن إعادة الانتشار الروسي تمثّل محاولة لإرساء “هدوء مراقَب” أكثر من كونه تحوّلًا في موازين القوى. هي خطوة لحماية الحدود وضبط الميدان، وليست بالضرورة إعلان مواجهة مفتوحة مع “إسرائيل”.

الانعكاسات الأميركية: قلق مراقَب ومحاولة احتواء
بالنسبة لواشنطن، الزيارة تُقرأ كتحرّك يعيد إحياء النفوذ الروسي في منطقة تعتبرها الولايات المتحدة جزءًا من مسرح نفوذها الجيوسياسي. فالعودة الروسية إلى الجنوب السوري تعني، من وجهة النظر الأميركية، تمددًا استراتيجيًا جديدًا لموسكو على حساب الحضور الأميركي في الشرق الأوسط.

تخشى واشنطن أن تؤدي هذه العودة إلى تقييد حرية الحركة الإسرائيلية في الأجواء السورية، وإضعاف التنسيق العسكري القائم. لكنها، في الوقت نفسه، قد تجد فيها فرصة لتثبيت نوع من “التوازن المريح”، طالما أن الوجود الروسي يمكن أن يشكّل حاجزًا أمام تصاعد النفوذ الإيراني المباشر قرب الحدود الإسرائيلية. بذلك، سيكون الموقف الأميركي متأرجحًا بين القلق والمراقبة: فهي ترفض تمدد موسكو، لكنها تدرك أن الوجود الروسي قد يخفّف من احتمالات التصعيد، ما دامت مصالحها الاستراتيجية لا تُمسّ مباشرة.

الانعكاسات على “إسرائيل”
من الناحية الإسرائيلية، أي عودة فعلية لانتشار الشرطة العسكرية الروسية في الجنوب السوري تمثّل تحديًا غير مباشر لحرية العمليات الجوية التي اعتمدتها تل أبيب خلال السنوات الأخيرة. “إسرائيل” ستتعامل بحذر مع هذا التطور، وستسعى إلى تكثيف التنسيق مع موسكو لضمان استمرار عملياتها “المحدودة” دون الانزلاق إلى احتكاك مباشر، لكنها تدرك في الوقت ذاته أن روسيا، بعودتها، ستملك ورقة ضغط إضافية يمكن توظيفها في أي تفاهمات مستقبلية.

قراءة ختامية: من يعيد التوازن إلى الجنوب السوري؟
تأتي هذه الزيارة لتؤكد أن الملف السوري لم يغادر بعد ساحة التجاذب الدولي؛ فبين موسكو التي تبحث عن تعزيز نفوذها عبر بوابة “الضمان الأمني”، وواشنطن التي تراقب بحذر أي تمدد روسي جديد، وتل أبيب التي تخشى خسارة حرية حركتها الجوية، تبقى دمشق تحاول تثبيت معادلة جديدة تضمن لها الحد الأدنى من السيادة والاستقرار.

إن عودة الدور الروسي، حتى ولو بشكل جزئي، قد تعيد بعض التوازن إلى الجنوب السوري، لكنها أيضًا تفتح مرحلة جديدة من التعقيد السياسي، حيث تتقاطع المصالح وتتنافر الحسابات، فالجنوب السوري، كما يبدو، سيبقى مسرح اختبار للنفوذ الدولي، وميدانًا تُقاس فيه حدود كلٍّ من واشنطن وموسكو وتل أبيب على السواء.

الانعكاسات على الداخل السوري
على الصعيد الداخلي، تحمل الزيارة إلى موسكو رسائل طمأنة سياسية واقتصادية للداخل السوري، مفادها أن دمشق لا تزال تمتلك حلفاء قادرين على مدّها بشبكة أمان إقليمية في ظل العزلة الغربية والعقوبات الخانقة. فطلب إعادة الانتشار الروسي ليس مجرد إجراء أمني، بل إشارة إلى رغبة النظام في إعادة تثبيت شرعيته الدولية عبر الشريك الروسي، وتأكيد أن التحالف بين الطرفين ما زال فعّالًا وقادرًا على حمايته من الانهيار الكامل.

اقتصاديًا، يعوّل الجانب السوري على الزيارة لفتح الباب أمام دعم روسي في مجالات الطاقة والقمح والمشتقات النفطية، بعد أن وصلت الأزمة الداخلية إلى حدود غير مسبوقة. كما تراهن دمشق على أن عودة الحضور الروسي الميداني قد تساهم في خلق بيئة أكثر استقرارًا نسبيًا في الجنوب، ما يُعيد تنشيط بعض الحركة الاقتصادية ويخفّف من موجات النزوح الداخلي.

لكن في المقابل، يدرك السوريون أن هذه الزيارة لن تغيّر الواقع المعيشي مباشرة، ما لم ترافقها خطوات إصلاحية داخلية، ومقاربات سياسية أوسع تعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
فروسيا، مهما قدّمت من دعم، تبقى عامل توازن لا عامل إنقاذ، والرهان الحقيقي يبقى على قدرة الداخل السوري نفسه على التقاط الفرصة وترميم التماسك الوطني.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.