ريما فارس – خاص الناشر |
صندوق النقد الدولي عاد ليضع لبنان أمام اختبار الإصلاح من جديد. في البيان الختامي لبعثته إلى لبنان (حزيران 2025)، شدد على أن أي خطة تعافٍ لا يمكن أن تنجح ما لم يُعَد بناء الثقة بالنظام المصرفي، وإصلاح النظام الضريبي على أسس عادلة. في هذا السياق، يوضح الصندوق أن لا مجال للنهوض الاقتصادي من دون معالجة حقيقية لملفين أساسيين: النظام المصرفي المختل، والخلل العميق في القوانين الضريبية. كلاهما، البنوك والضرائب، هما عماد أي اقتصاد، وحين ينهاران، ينهار كل شيء فوق رؤوس المواطنين.
القضية الأولى التي أشار إليها الصندوق هي تعديل قانون تسوية البنوك، وذلك بهدف حماية المودعين. فمنذ خمس سنوات تقريبًا، يعيش اللبنانيون معاناة غير مسبوقة: ودائعهم محجوزة، لا يمكنهم التصرف بها إلا بالقطارة، فيما البنوك نفسها ترفع شعار الإفلاس غير المعلن. المودعون فقدوا الثقة بالنظام المصرفي، وباتت العلاقة بينهم وبين مؤسساتهم المالية علاقة نزاع وخصومة. لذلك، شدد الصندوق على أن أي خطة تعافٍ لا يمكن أن تنجح ما لم يُعَد بناء هذه الثقة عبر قانون واضح يحدد مسؤوليات البنوك والدولة معًا، ويضمن أن أموال الناس ليست مجرد أرقام تتبخر.
القضية الثانية تتعلق بالضرائب. لسنوات طويلة، كان النظام الضريبي في لبنان غير عادل، إذ إن العبء الأكبر كان يقع على الفئات المتوسطة والفقيرة، فيما كبار المتمولين ورجال الأعمال يستفيدون من ثغرات واسعة للتهرب الضريبي. ما يطلبه الصندوق ليس فقط زيادة الإيرادات بأي وسيلة، بل إعادة صياغة النظام برمته على أساس العدالة. المطلوب أن تكون هناك ضرائب تصاعدية على الثروات الكبيرة، وأن يُسَدّ باب التهرب عبر رقابة فعلية، وأن تتوسع قاعدة المكلفين بحيث تتحمل كل القطاعات مسؤوليتها. بهذا المعنى، تصبح الضريبة أداة لإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية، لا مجرد وسيلة لجباية عشوائية تزيد أوجاع الناس.
أما موازنة 2026، فقد وصفها الصندوق بأنها يجب أن تكون طموحة. الطموح هنا لا يعني مجرد أرقام مرتفعة في خانة الإيرادات أو النفقات، بل رؤية متكاملة لإعادة توجيه موارد الدولة نحو ما يحتاجه اللبنانيون فعلًا. البنية التحتية المتهالكة من كهرباء ومياه ونقل لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل، والخدمات الأساسية في التعليم والصحة لم تعد تحتمل الإهمال. المطلوب موازنة تضع هذه الأولويات في المقدمة، بدل أن تبقى الدولة أسيرة خدمة الدين العام والرواتب وحدها.
غير أن التوصيات مهما كانت منطقية وضرورية، تصطدم بعائق وحيد لكنه الأكبر: غياب الإرادة السياسية. اللبنانيون يعرفون أن الإصلاحات مطروحة منذ سنوات طويلة، وأن كل تقارير المؤسسات الدولية تكرر العناوين نفسها. المشكلة لم تكن يومًا في وضوح الطريق، بل في من يمتلك الجرأة على السير فيه. النظام السياسي القائم محكوم بتوازنات طائفية ومصالح مالية متشابكة، وهو ما يجعل أي محاولة للمساس بالمصارف أو إعادة النظر بالضرائب تصطدم بجدران من التعطيل والمساومة.
هكذا يظهر لبنان أمام صندوق النقد والعالم: بلد يعرف تمامًا ما عليه فعله، لكنه يفتقر إلى القرار. والنتيجة أن الأزمة تستمر، والمودعون يدفعون الثمن من أعمارهم ومدخراتهم، والفقراء يتحملون وزر نظام ضريبي غير عادل، فيما السياسيون يتجادلون حول حصص ومكاسب. صندوق النقد قدّم مرة أخرى خريطة طريق، لكن الخوف أن تبقى هذه الخريطة معلقة على الرف، فيما يسير البلد وحيدًا في طريق الانهيار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.