عامٌ على الشهادة.. بين الفقد والرهان السياسي
د. أكرم شمص – خاص الناشر |
في الذكرى الأولى لاستشهاد الشهيد الأسمى السيّد حسن نصر الله، يقف لبنان ومعه الأحرار في العالم أمام لحظةٍ مفصلية هزّت القلوب والعقول معًا. يومٌ أمطر فيه العدو الصهيوني جسد القائد بـ81 طنًّا من القنابل، ظانًّا أنّه سيُسقط الراية ويُسكت الصوت الذي دوّى في وجه الاحتلال لعقود. ولكنّ الدماء التي أرادوها نهايةً تحوّلت إلى بدايةٍ لعهدٍ جديد، ازدادت فيه جذور المقاومة رسوخًا، واشتدّت إرادة المواجهة، كما لو أنّ كل قطرة دمٍ تحوّلت إلى رايةٍ خفّاقة ومجاهدٍ جديد يملأ الساحات إصرارًا على مواصلة الطريق.
لم يكن ذلك اليوم اغتيالًا لقائدٍ فحسب، بل محاولةً لتغيير المعادلات الداخلية والإقليمية عبر ترك فراغٍ في قلب القرار السياسي والعسكري. غير أنّ النتيجة جاءت عكس ما خُطّط له؛ فالفاجعة التي أرادها العدوّ صدمةً ميدانية ومعنوية، تحوّلت إلى حافزٍ لموجةٍ جديدة من الصمود السياسي والعسكري والشعبي، وأكّدت أنّ المقاومة لا تُهزم باغتيال قادتها، بل تتجذّر وتتمدّد مع كل تضحياتٍ جديدة.
الفقد كوقائع سياسية وإنسانية
الاستشهاد لم يكن حدثًا عاطفيًا فحسب، بل واقعةً سياسية وتنظيمية هزّت المشهد بأكمله. فقد حاول العدو عبر عمليته أن يضرب البنية القيادية للمقاومة، معتقدًا أنّ سقوط القادة سيؤدّي إلى إرباكٍ داخلي وانهيارٍ في منظومة القرار. لكنّ ما جرى كان عكس ذلك تمامًا؛ إذ سرعان ما تحوّلت الفاجعة إلى مصدرٍ متجدّد للشرعية الشعبية والسياسية، ودفعت بالمؤسسات نحو تماسكٍ أكبر، وإلى إعادة ترتيبٍ للصفوف بسرعاتٍ غير متوقّعة.
لقد أثبتت التجربة أنّ دماء القادة تحوّل الفقد إلى طاقةٍ سياسيةٍ وشعبيةٍ متجدّدة، وأنّ الجماعات التي ترتبط رمزيًا ووجدانيًا بقادتها، تمتلك قدرةً على ملء الفراغ بسرعة، بل وعلى تحويله إلى لحظة إعادة بناءٍ وتجذيرٍ للمشروع بأكمله. ولهذا، جاءت الذكرى الأولى ليس فقط لاستحضار مشاعر الحزن، بل لقراءة التحوّل الذي فرضه الاستشهاد على المستويات السياسية والعسكرية والشعبية كافة.
من الميدان إلى السياسة: تغيّر المعادلات
الاغتيال وما تبعه لم يكن حدثًا عابرًا، بل محاولةً لرسم توازناتٍ جديدة بالنار والدم. أراد العدو أن يفرض معادلاتٍ ميدانية وسياسية تُربك المقاومة، لكنّ ما حصل فعليًا أنّ المؤسسات العسكرية والسياسية للمقاومة أثبتت قدرةً عالية على استيعاب الصدمة، وإدارة الردود الميدانية والإعلامية والسياسية بكفاءة، ومنعت العدو من تحقيق أيّ اختراقٍ استراتيجي.
إقليميًا، دفعت العملية القوى المحيطة لإعادة حساباتها، سواء في ما يتعلّق بدعم المقاومة أو محاولة ضبطها، فيما بعض القوى استغلّت الحدث للضغط السياسي والإعلامي، وأخرى وجدت فيه فرصةً لفتح مسارات تفاوضية جديدة. أمّا المقاومة، فاختارت أن تجعل من دماء قادتها جسرًا نحو مرحلةٍ جديدة تؤكّد أنّ ما بعد الاغتيال لن يكون كما قبله، وأنّ زمن كسر الإرادات قد انتهى بلا عودة.
القيادة الجديدة: صلابة في زمن النار
تولّى سماحة الشيخ نعيم قاسم القيادة في لحظةٍ هي الأصعب منذ عقود، حاملاً وصايا القادة الشهداء وإرثهم الجهادي والسياسي. في وقتٍ اجتمعت فيه آلة العدوان الصهيوني، والدعم الأمريكي المفتوح، وتكاثرت فيه خناجر الداخل المتصهين، وقف الشيخ نعيم ثابتًا كالجبل، ليؤكّد أنّ المقاومة أكبر من الأشخاص، وأنّ الأمانة لا تسقط باغتيال القادة بل تتجذّر أكثر فأكثر.
لم يكن الانتقال مجرّد طقسٍ رمزي، بل اختبارًا عمليًا لقدرة المؤسسة على الاستمرار تحت الضغط المركّب: عسكريًا عبر استمرار القصف والاغتيالات، وسياسيًا عبر الضغوط الإقليمية والدولية، وإعلاميًا عبر محاولات التشويه والاختراق. لكنّ الأداء المتماسك للقيادة الجديدة، سياسيًا وعسكريًا، أثبت أنّ مشروع المقاومة لا يُختزل في الأفراد، وأنّ المؤسسات التي بُنيت بالدماء والتجارب الطويلة باتت قادرة على حماية مسارها مهما اشتدّت العواصف.
رسائل الذكرى الأولى: للعدو وللأمة
في الذكرى الأولى، جاءت رسائل المقاومة واضحة في اتجاهاتٍ عدّة:
1.للعدو: أنّ الدماء لم تُضعف المقاومة بل جعلتها أصلب عودًا وأقوى حضورًا سياسيًا وعسكريًا.
2.للشعب: أنّ دماء الشهداء تحوّلت إلى عهدٍ جديد، وأنّ الطريق الذي بدأه القادة سيستمر حتى تحقيق الأهداف كاملة.
3.للحلفاء: أنّ المشروع السياسي والعسكري للمقاومة باقٍ ومحصّن، وأنّ القيادة الجديدة قادرة على الجمع بين التخطيط الاستراتيجي والمواجهة الميدانية، بما يحفظ وحدة الصفّ واستقلال القرار.
هذه الرسائل أكّدت أنّ استشهاد القادة لم يكن نهاية مرحلة، بل بدايةً لطورٍ جديدٍ أكثر رسوخًا وصلابة، وأنّ الدماء التي سقطت صارت أساسًا لمعادلاتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ تتجاوز حدود الجغرافيا إلى فضاءٍ إقليمي ودولي أوسع.
قراءة آفاقية: المسارات المحتملة وتوازنات القوة
تبدو المرحلة المقبلة مفتوحةً على سيناريوهاتٍ متعدّدة، ترتبط بمستوى التصعيد العسكري من جهة العدو، وبقدرة القيادة الجديدة على ضبط القواعد الشعبية والمؤسساتية من جهةٍ ثانية، فضلًا عن التحوّلات الإقليمية والدولية المحتملة في خريطة التحالفات والسياسات.
إذا نجحت القيادة في استثمار الإرث الجهادي والسياسي لبناء مؤسساتٍ أكثر صلابة، فإنّ الذكرى الأولى ستُسجَّل كنقطة انطلاقٍ نحو مرحلةٍ أشدّ رسوخًا، تُترجم فيها التضحيات إلى مكتسباتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ دائمة. أمّا إذا فشلت -وهو ما يبدو مستبعدًا في ظلّ التجربة المتراكمة- فقد تفتح الأبواب أمام جولاتٍ جديدة من الاستنزاف الداخلي والخارجي، وهو ما تدركه القيادة وتعمل لتجنّبه عبر مأسسة القرار وضبط التوازن بين المواجهة والتخطيط بعيد المدى.
بين الحزن والحساب العملي
عامٌ على الشهادة، والمقاومة اليوم أصلب عودًا وأقوى حضورًا وأوسع امتدادًا. فقد أثبتت أنّ الدماء التي أرادها العدو نهايةً تحوّلت إلى بداية، وأنّ القادة الذين رحلوا تركوا خلفهم مشروعًا أكبر من الأشخاص، مشروعًا يعرف طريقه إلى النصر مهما اشتدّت العواصف.
لكنّ الذكرى ليست لحظةً للعاطفة وحدها، بل هي أيضًا محطةٌ للتخطيط العملي. فالتضحيات الكبرى تفرض على المؤسسات أن تحوّل الحزن إلى قوةٍ بنّاءة، وأن تجعل من الفقد حافزًا لتجذير المشروع وتطويره، لا مناسبةً عابرة للرثاء والانفعال. إنّ نجاح المرحلة المقبلة مرهونٌ بالقدرة على تحويل وصايا الشهداء إلى خططٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ واقتصاديةٍ متكاملة، تحمي المقاومة من الضغوط، وتضمن استمرارها حتى تحقيق أهدافها كاملةً غير منقوصة..
سلامٌ على السيّد حسن يوم ولد قائدًا، ويوم قاوم حرًّا، ويوم ارتقى شهيدًا، ويوم يُبعث مع الأنبياء والصدّيقين والشهداء.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.