عذرًا أيها العزيز…
ياسمين الزين – خاص الناشر |
بعد عامٍ على غيابك،
أودّ أن أعتذر إليك، أيها العزيز، وأنا أقرأ خطابك الأخير بكلّ ذرة تركيز أمتلكها. أعود مرارًا إلى بعض الجمل والأسطر التي قلتها قبل اثني عشر شهرًا، أقرأ ما فوق السطور، وما بينها، وحتى ما تحتها. كان خطابك عابرًا للزمن، لم أفهم آنذاك ما فهمته اليوم.
أقرّ وأعترف بسذاجتي.
حكمتُ على خطابك الأخير بغضب، بعد جدار الصوت الذي هزّ أرجاء المكتب. صرختُ: “هلق وقت تعايدنا بمولد النبي؟”.
كنتُ، مثل كثيرين، نريد خطابًا يثأر لمجزرتي الثلاثاء والأربعاء.
لكنّك كنت هادئًا، وكأن سكينة الكون حطّت على قلبك. شكرتَ كلّ من مدّ يد العون لتضميد جراحنا، شكرتَ الخصم قبل الصديق، وتوجّهتَ بخطاب عقلاني، في وقتٍ كانت العاطفة تشدّنا نحو القاع.
وعدتنا بملاحقة المتورطين بجريمة العصر، وقلتَ يومها إن التحقيقات قد بدأت.
قسّمت خطابك الهادئ إلى ثلاثة محاور، واعترفت بعِظَم المصاب، بعيدًا عن المكابرة، مطمئنًا إلى أن المقاومة، التي انطلقت عام 1982، لا تهزّها حتى مجزرة بهذا الحجم.
قلتَ إن أساسها متين، لأنها تستند إلى شعبٍ لا تفرّقه المصائب، والتاريخ يشهد.
لم نفهم آنذاك أبعاد ما كنت تقوله، لكننا فهمنا اليوم.
كلّ الرهانات على تفكّك بيئة المقاومة سقطت.
الشعب اليوم أكثر تمسّكًا بالسلاح من أي وقت مضى.
لم يخرج أحد ساخطًا أو ناقمًا على حزبك، ولا متذمّرًا من خسائره المادية.
تأكّدنا أن كلّ الخسارات بعدك لا تُساوي شيئًا، ولو بقينا في العراء، بلا سقفٍ أو مورد رزق.
الناس استيقظت من سباتها الدنيوي، ورأينا، ولمسنا بأيدينا، معنى معركة الحقّ والباطل التي كنتَ تحدّثنا عنها لسنوات.
ذاك الباطل، الذي يُحاضر اليوم بالعفّة، ويريد سلامًا مع كيانٍ يتغذّى على دماء المستضعفين حول العالم.
استطعنا أن نرى جزءًا مما كنتَ تراه، وكنت تحدّثنا عنه، أيها البصير، الذي حمل ما لا تحمله الجبال بابتسامته المعهودة.
حقًّا، كنتَ المحور… محور كلّ شيء.
فقدُك فتح عيوننا، وحمّلنا مسؤولية أفعالنا.
أصبحنا مُجبرين على التفكير، في أبسط الأمور، لأنك كنتَ تفكّر عنّا.
كنا في مأمن، لأنك كنت هنا.
حقًّا، كنتَ ربّ هذه الطائفة التي فقدت أباها، عزّها وعزوتها.
أيُّ قائدٍ أنت؟ حتى الخصوم اعترفوا بجبروتك.
اليوم، وبعد عامٍ على رحيلك،
خطابك الأخير ما زال ثقيلًا على قلوبنا، لأننا استخففنا بوقعه، وبهدوئك.
سامحني على كلّ مرّة ظننتُ أنني أفهمك، وعلى كلّ مرّة لم أسمع فيها خطابك، لأنني كنتُ غاضبة من مواقفك العقلانية، التي لم أفهمها إلا بعد فوات الأوان.
كنتَ نعمةً جحدناها، ولهذا حُرمنا منها.
وداعًا، أيها القائد العظيم.
كان لي الشرف أن أعيش في زمنٍ كان فيه حسن عبد الكريم نصر الله يتنفّس، وكان إصبعه يهزّ العالم.
نعيش الأيام والليالي والأسابيع والشهور وقد تكون السنوات، ونؤمن أن هذه المعركة كبيرة وطويلة مع هذا الكيان، ولكن أفقها ونهايتها واضحة كما وعدتنا، يراها المجاهدون والمؤمنون والصابرون والمحتسبون والجرحى، ويشهد عليها اليوم الشهداء من عليائهم.
السلام عليك ورحمة الله وبركاته.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.