التخطيط الأميركي الصهيوني للبنان: مخطط قديم بثوب جديد
سارة حرب – خاص الناشر |
تعمل الولايات المتحدة والكيان المؤقت، مدعومَين بعدد من القوى الغربية، على هندسة مشروع متكامل يستهدف لبنان ومقاومته. هذا المقال هو حصيلة استقراء على مدى عشرة أشهر، بالاستناد إلى نحو خمسين دراسة ومقال صدرت عن مراكز أبحاث وصحف غربية وصهيونية. ما كشفته مراكز الدراسات اليوم يوضح أن المطلوب لم يعد مجرد نزع سلاح المقاومة، بل إعادة تشكيل لبنان سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بما يخدم مصالح المشروع الأمريكي-الإسرائيلي، ويُبقي هذا البلد رهينة لإملاءات الخارج.
التلاعب بالرواية: تحميل المقاومة مسؤولية العدوان
المرحلة الأولى من هذا المشروع انطلقت مباشرة بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، عبر حملة سياسية وإعلامية واسعة حمّلت حزب الله مسؤولية “دمار لبنان” وسعت إلى عزله عن بيئته الشعبية. حيث نشر مركز FDD Foundation for Defense of Democracies مقالًا بعنوان “من دمّر لبنان: حزب الله أم المصارف؟” يحمّل فيه حزب الله مسؤولية نتائج الحرب ويوصي فيه الكاتب بنزع سلاح حزب الله باعتبار ذلك الحل الأساسي لمشاكل لبنان. ويستكمل الكاتب في مقالٍ آخر تحت عنوان “التظاهر بنزع سلاح حزب الله لن يجدي نفعاً” تحريضه بالتشجيع على عدم تحميل الكيان المؤقت وحده مسؤولية التصعيد والاعتراف بأن حزب الله كان المبادر في الحرب. في هذه الحملة، كان الهدف واضحًا: طمس حقيقة أن الكيان المؤقت هو المعتدي، وتحويل الضحية إلى متهم، بما يمهّد لتدويل الملف اللبناني وفرض قرارات دولية تحت البند السابع، مع تكريس دور الأمم المتحدة كأداة ضغط على السيادة اللبنانية بدل أن تكون إطارًا للحماية.
صناعة “شرعية جديدة”: دولة تُدار من الخارج
المرحلة الثانية ركزت على ما يُسمّى “بناء شرعية جديدة”، عبر الترويج لفشل النظام اللبناني القائم، والدفع باتجاه تشكيل حكومة تكنوقراط أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة تُقصي المقاومة من الحياة السياسية. حيث طرح مايكل يونغ محرر مدونة “ديوان” التابعة لمركز Malcolm H. Kerr Carnegie Middle East Center في مقاله “حزب الله يحاول العودة” مسألة تعزيز وجود الدولة على الأرض عبر تشكيل حكومة جديدة بسرعة لتجنب الفراغ الذي “قد يستغله حزب الله” وضمان احتكار الدولة للسلاح. كما طالب بعض المحللين السياسيين في مركز TWI The Washington Institute for Near East Policy بالاعتراف بأن حزب الله لم يُهزم بالكامل وأنه لا يزال يحتفظ بجزء من ترسانته ودعوا الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للضغط على الحكومة اللبنانية لاتخاذ موقف حازم تجاه أنشطة الحزب. كانت الغاية من هذه الطروحات خلق دولة هجينة منفصلة عن جذورها الشعبية، تديرها نخب مرتبطة بالخارج، وتُنفذ سياساته، حتى لو تعارضت مع مصالح اللبنانيين.
الاستهداف المنهجي: حصار البيئة الحاضنة
ثم جاء المسار الأخطر، وهو استهداف المقاومة داخل بيئتها. اعتمدت واشنطن وحلفاؤها على العقوبات والحصار الاقتصادي والحملات الإعلامية الموجّهة، في محاولة لضرب صمود المجتمع المقاوم. فقد حثّ الخبراء والمحللون السياسيون في مراكز الدراسات الغربية والصهيونية المعنيين في الدولة اللبنانية على مراقبة مصادر تمويل حزب الله وتجميدها، خاصة عبر التدقيق في المطار والموانئ اللبنانية بالإضافة إلى استغلال النفوذ الأمريكي على الأجهزة الأمنية اللبنانية لوقف تدفق الأموال إلى حزب الله. كما جرى العمل على تشجيع الانقسامات داخل الطائفة الشيعية، وتسويق “رموز بديلة” تتحدث بلسان الخارج، مؤيدين توفير حماية للمعارضة الشيعية خلال تحضيراتها للاستحقاقات الانتخابية لمواجهة “الضغوط التي قد يفرضها حزب الله”، يأتي ذلك في مسعى لشق الصف الداخلي وتفكيك البنية الشعبية التي تستند إليها المقاومة.
الاقتصاد كسلاح: إعادة إعمار مشروطة
في مرحلة لاحقة، تحوّلت عملية إعادة الإعمار من فرصة لإنهاض لبنان إلى أداة ابتزاز سياسي. على سبيل المثال، طرحت حنين غدار في مقالٍ لها نشرته مجلة Foreign Affairs مسألة منع حزب الله من تولي عملية إعادة الإعمار، باعتبار أن ذلك سيساعد على تقويض سمعة حزب الله المحلية، وأكّدت غدار ضرورة لعب المجتمع الدولي دورًا رقابيًا لضمان استقرار لبنان وتقديم الدعم الكافي لإضعاف حزب الله. رُبطت المساعدات الدولية بإضعاف المقاومة، وحُوِّل البنك الدولي وصندوق النقد إلى أدوات ضغط، بدل أن يكونا مؤسستين لدعم الشعوب. واشترطت واشنطن وحلفاؤها حصر السلاح بيد الدولة وفق رؤيتهم، وجعلوا من الدعم المالي غطاءً لإعادة هندسة المشهد السياسي اللبناني بما يخدم مصالحهم.
تفكيك بيئة المقاومة عن المجتمع اللبناني: الفتنة الناعمة
في المرحلة الأخيرة، سعت الخطة إلى تفكيك بيئة حزب الله عن الشعب اللبناني، عبر التلاعب بالرأي العام وصناعة خطاب يحمّل حزب الله مسؤولية معاناة اللبنانيين عامة. وقد عرض ديفيد شينكر في دراسته “لحظة الحقيقة في لبنان” التي نشرها مركز TWI The Washington Institute for Near East Policy تكليف الجيش بوضع خطة ملموسة لنزع سلاح حزب الله، بالتزامن مع دعمه بالموارد والتدريب لمساعدته على السيطرة على الجنوب. وكان الهدف ضرب العلاقة بين الجيش والمقاومة، وإثارة الفتنة داخل المجتمع اللبناني، وصولًا إلى عزل المقاومة عن محيطها الطبيعي وإفقادها حاضنتها الشعبية.
مخطط قديم بثوب جديد
إن قراءة هذا المخطط بكل مراحله تفرض على المقاومة الثبات واليقظة في آن واحد. فالمشروع الأمريكي-الإسرائيلي لا يستهدف السلاح فحسب، بل يسعى إلى ضرب الروح والهوية. ومن هنا، فإن مسؤولية حزب الله اليوم لا تقتصر على مواجهة العدوان الخارجي، بل تشمل أيضًا تحصين الجبهة الداخلية عبر تعزيز الوعي الشعبي، وتوسيع دوائر التواصل مع مختلف المكوّنات الوطنية، والعمل على مبادرات اقتصادية واجتماعية تخفّف من أعباء الحصار عن بيئته. فالتمسّك بخيار المقاومة، مقرونًا برؤية وطنية جامعة، هو السبيل الأنجح لإفشال كل محاولات العزل والتفكيك.
يعتبر هذا المسار في العدوان ليس جديدًا، بل هو امتداد لمشروع أمريكي-إسرائيلي قديم يتجدد بأشكال وأدوات مختلفة. فقد فشل العدو في تحقيق أهدافه عسكريًا عام 2006، ولم تنجح العقوبات ولا الضغوط السياسية في انتزاع سلاح المقاومة أو كسر إرادتها. التجربة أكدت أن هذه المشاريع مهما بدت متماسكة على الورق، فإنها تصطدم دائمًا بجدار صلب من الوعي الشعبي وصمود المقاومة، التي أثبتت أنها عصيّة على الكسر، سواء أمام آلة الحرب المباشرة أو أمام الحروب الناعمة والضغوط الاقتصادية والسياسية.
إن ما يُراد للبنان هو أن يصبح دولة تابعة فاقدة للسيادة، ولكن الحقيقة على الأرض تقول إن شعب المقاومة بات اليوم أكثر رسوخًا وتجذرًا، وأن رهانات واشنطن وتل أبيب على مؤامرات مكتبية ومؤتمرات دولية لن تجلب لهم سوى المزيد من الفشل.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.