“بريكس” تتوسع في عالم المتغيرات ومواجهة الأحادية القطبية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

تمثّل دول بريكس مليارات الأشخاص عبر ثلاث قارات، مع اقتصادات تشهد مراحل متفاوتة من النمو، لكنّها تتشارك أمرًا واحدًا: ازدراء نظام عالمي تقول إنّه يخدم مصالح القوى الغربية الغنية.

شهدت مدينة جوهانسبرغ في جنوب إفريقيا قمة مجموعة الـ”بريكس” الـ15 وحملت عنوان “بريكس وأفريقيا: شراكة من أجل النمو والتنمية المستدامة والتعددية”. القمة التي عقدت يومي 21 و 22 من الشهر الحالي تأتي في توقيت عالمي دقيق للغاية، مع تصاعد التحديات والتهديدات الخارجية والداخلية، إلّا أنّ القضيتين الرئيسيتين اللتين ناقشتهما القمة كانتا: توسيع المجموعة بانضمام الدول الراغبة بذلك واعتماد عملة موحدة بين دول المجموعة.
السعودية والإمارات ومصر وإيران والأرجنتين وإثيوبيا أعضاءٌ جددٌ منذ بداية العام القادم ويأتي ذلك بالتزامن مع جهود لإطلاق عملة موحدة تربط تلك الدول في مسعى للتخلص من سطوة الدولار سلاحِ الولايات المتحدة الاقتصادي رغم الصعوبات.

فما الدلالات والمؤشرات على انضمام تلك الدول إلى بريكس؟ وهل قطارُ الشرق بات طوقَ الخلاص من أحادية القطب؟
ما مصير الدولار وسطوتِه في حال تخلصت تلك الدول من تعاملاتها به فيما بينها؟ وما الفوائد التي تعود على بلدان بريكس؟
أما واشنطن فما هي أدواتها في خضم هذه التطورات؟ وهل سيدفعها ذلك لتغيير سياساتها على الساحة الدولية؟

لقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن دول بريكس لا تتنافس مع أحد، وتدعم تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
وأوضح بوتين أن النظام العالمي متعدد الأقطاب له خصوم “يسعون إلى تعطيل هذه العملية” وكبح جماح مراكز القوة الجديدة، مشيرًا إلى أن “دول ما يسمى بالمليار الذهبي تفعل كل شيء للحفاظ على العالم الأحادى القطب لأنه يناسبها وتستفيد منه”.

ووصف الرئيس الروسي ذلك بأنه “مظهر من مظاهر الاستعمار”، مضيفًا أن هذه الدول “تختبئ وراء شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان النبيل” بينما تستغل موارد الدول النامية.

من جهتها علقت وزارة الخارجية الأميركية على قبول مجموعة “بريكس” انضمام أعضاء جدد إليها، قائلة إن واشنطن تعتبر أن للدول الحق في اختيار الشركاء والجمعيات بشكل مستقل. وقالت: “الولايات المتحدة كما كانت في السابق تعتبر أن الدول يمكنها اختيار شركائها وجمعياتها التي ستتفاعل معها. وسنواصل العمل مع شركائنا وحلفائنا في المنتديات الثنائية والإقليمية والمتعددة الأطراف لتعزيز رفاهيتنا المشتركة والحفاظ على السلام العالمي والأمن”.

بدوره، قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض إن الولايات المتحدة تستبعد تحول المجموعة إلى منافس جيوسياسي لها أو لأي بلد آخر. وأضاف أن “هذه مجموعة متنوعة من الدول.. لديها اختلاف في وجهات النظر بشأن القضايا الحاسمة”.

لكن أوليفر ستونكل أستاذ العلاقات الدولية في مؤسسة “جيتوليو فارغاس” في ساو باولو، قال في تحليل في مجلة فورين بوليسي الأميركية، إنه رغم الخلافات والتي تصل إلى حد التوتر بين بعض دول بريكس، فإن أعضاء المجموعة لديهم قواسم مشتركة أكثر مما يقدره المحللون الغربيون في كثير من الأحيان. ولا تزال الفوائد الاستراتيجية التي تنتجها المنظمة للمشاركين فيها تتجاوز تكاليفها بكثير.

وأشار ستونكل إلى أنه على الرغم من “الخلافات”، لم يفوت أي زعيم من زعماء مجموعة بريكس حضور القمم السنوية للمجموعة، وبدلًا من الانهيار الذي توقعه محللون غربيون، تعززت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، وأصبحت عضوية بريكس عنصرًا أساسيًا في هوية السياسة الخارجية لكل عضو.

تهدف “بريكس” إلى كسر الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، وإصلاح مجموعة البنك وصندوق النقد الدوليين، وتشجيع التعاون الاقتصادي والتجاري والسياسي بين دول المجموعة، حيث يبلغ رأسمال المجموعة ما يقرب من 200 مليار دولار.

وتنتج دول المجموعة نصف المنتجات الزراعية العالمية، بينما تسيطر هذه الدول على ثلث المنتجات الصناعية وحصتها من التجارة العالمية 17%.
وبلغ حجم التبادل التجاري لدول المجموعة مع باقي الدول حول العالم خلال العام المنصرم، 5.9 تريليونات دولار أميركي.

وقال مندوب جنوب أفريقيا في مجموعة بريكس أنيل سوكلال إنّ أحد الأسباب التي تجعل الدول تصطف للانضمام إلى التكتّل هو “العالم شديد الاستقطاب الذي نعيش فيه، والذي زادت من استقطابه الأزمة الروسية-الأوكرانية حيث تُجبر البلدان على الانحياز” إلى أحد الطرفين. وأضاف أن “دول الجنوب لا تريد أن يُملى عليها مَن تدعم وكيف تتصرف وكيف تدير شؤونها السيادية. إنها قوية بما يكفي الآن لتأكيد مواقفها”، وبحسب سوكلال، فإنّ دول بريكس بعثت الأمل للدول التي تتطلّع إلى إعادة رسم “الهيكل” العالمي.

وبرأي المحاضر في السياسة الدولية في جامعة ليمبوبو، ليبوغانغ ليغودي، فإنّ العديد من الدول الحريصة على الانضمام إلى المجموعة “تنظر إلى بريكس كبديل للهيمنة الحالية” في الشؤون العالمية.

جاء التجسيد الفعلي لفكرة تكتل البريكس بعد الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 التي عصفت بالكثير من الاقتصاديات المتقدمة في نظام اقتصادي عالمي هيمنت عليه الولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، وأسست هذه الدول هذا التكتل لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي في ما بينها لتحقيق مصالحها المشتركة وأبرزها تشكيل نظام اقتصادي متعدد الأقطاب قوي له القدرة على الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية العالمية.

ومن المتوقع وبحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم حاليًا، بحسب مجموعة “غولدمان ساكس” البنكية العالمية، والتي كانت أول من استخدم هذا المصطلح في عام 2001، ومن المتوقع أن تشكل هذه الدول حلفا أو ناديا سياسيا في ما بينها مستقبلًا.

ولكن هذا الشعور تعمق بعد عام 2008. والسبب أن الدول عانت من جراء تدهور السوق المالية (البورصة) في الولايات المتحدة بسبب انهيار بورصات الإسكان، ومن ثم تراجع أسعار العقار والأسهم في الاقتصاد الأميركي الكلي. وكثر الجدل حول انتقال الأزمة من “وول ستريت”، أو شارع المال الأميركي إلى رِيلْ ستريت Real Street أو شارع السلع والخدمات.

ولأغراض فهم التطورات التي حصلت، فقد عَقَد رؤساء دول البريكس الأربعة قمة في مدينة “يكاترينبورغ” في روسيا في شهر يونيو (حزيران) في عام 2009 لأول مرة. وفي ذلك العام، وبضغط من هذه الدول، أصدرت منظمة مؤتمر التنمية والتجارة “UNCTAD” في سويسرا تقريرًا دعت فيه إلى ضرورة إصلاح نظام النقد الدولي الذي يقف على رجل واحدة (الدولار). وطالبت بخلق نظام متعدد العملات الرئيسية.

ولما دخلت دولة جنوب أفريقيا عضوًا في تجمع البريكس عام 2010، نادى الرؤساء الخمسة في مؤتمر القمة الذي عقدوه في شهر إبريل (نيسان) عام 2011 بمدينة سانيا في الصين بالتأكيد على الفكرة نفسها. وقد شجعهم أكثر على ذلك قيام الرئيس الأميركي بضخ حوالي (800) مليار دولار في البنوك والمؤسسات المالية الأميركية جزءًا من حل الأزمة المالية ونتائجها.

لقد سبق لهذه الفكرة أن طرحت، وبإلحاح، على المستوى النظري من قبل الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل والأستاذ بجامعة كولومبيا روبرت مونديل، والذي دعا إلى خلق هذه المناطق الثلاث، مثبتًا أن نظامًا كهذا أجدى وأصح للاقتصاد الدولي وتيسير معاملاته، وقد عمل روبرت مونديل لفترة مستشارًا اقتصاديًا للصين، وله تلاميذ صينيون درسوا نظرياته.

ولكن ردة فعل الإدارة الأميركية على كل هذه المقترحات كانت غاضبة. وقد هددت الإدارة الأميركية على ألسنة بعض وزرائها ومسؤولين في البيت الأبيض بأن هذه قضية تقع خارج اختصاص الأمم المتحدة، وأن أميركا قد توقف دعمها وتتأخر في تسديد اشتراكاتها (نحو 19% من الموازنة عام 2010). واعتبرت استمرار البحث في هذا الموضوع إساءة بالغة للاقتصاد الأميركي، وسوف يحدث فوضى عارمة داخل الاقتصاد الدولي.

أما الآن، ونحن في عام 2023، وبعدما ضخت الولايات المتحدة حوالي تريليوني دولار في الاقتصاد العالمي، فقد غيرت -منذ عهد الرئيس أوباما- سياساتها للدفاع عن الدولار. وقد نتج عما سمي “بالتسهيل الكمي” أن بدأ سعر الدولار يعاني، وبدأت الأسعار في الولايات المتحدة في الصعود، خاصة بعد الضغوط الناجمة عن انتشار وباء كوفيد-19 (كورونا) وعقب اندلاع الحرب الأوكرانية، واستعار الحرب الباردة في أماكن متعددة في العالم، أهمها بحر الصين في المحيط الهادئ، وفي جبال الهملايا بين الصين والهند، وفي الشرق الأوسط بين غزة وإسرائيل، وغيرها من المشكلات التي رفعت الأسعار عالميًا.

ولذلك، قامت الولايات المتحدة بالتخلي عن سياسة التخفيف الكمي، واستبدالها بسياسة “نقدية” أكثر تشددًا تتمثل في رفع أسعار الفوائد بقرارات أحادية من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي. وقد رفعت أسعار الفوائد إحدى عشرة مرة خلال عامي 2022 و2023، وصل مجموعها إلى (350) نقطة أساس.

وبسبب الحرب الإلكترونية، وحرب العملات، وحرب النفوذ في أماكن كثيرة في العالم، وزيادة التوترات والحروب بالإنابة، فإن إبقاء الأمور العسكرية والسياسة النقدية في يد دولة واحدة أصبح مرفوضًا من دول صارت أقطابًا بعد فترة بيات طويلة استثمرتها الولايات المتحدة بكل قوة. لقد برزت الآن دول ترفض تلك القطبية الأحادية خاصة الصين وروسيا، عدا عن دول ترى أنها جديرة بذلك مثل الهند والبرازيل.

وقد تجمعت هذه الأقطاب في منظمة “البريكس”، وصارت توسع دورها، وتنوع في مؤسساتها أملًا في خلق نظام اقتصادي جديد مواز لنظام المؤسسات الدولية الحالية، وتتعامل بطرق جديدة تخرج الدولار من معاملاتها باعتباره وسيطًا ومقياسًا لأسعار العملات، ووسيلة للدفع، وحتى وحدة لعمل المقاصة الدولية.

وقد قامت “بريكس” حتى الآن بخلق مؤسسات جديدة تسعى لخلق نظام اقتصادي مالي دولي جديد. وهذه المؤسسات قد بدأت عملها بدون ضجيج أو محاولة لتعطيل دور المنظمات الدولية النظيرة لها.

فقد أنشئ بنك التنمية الجديد والذي سمي ببنك آسيا التنموي في البداية.
وأنشأت ترتيبًا جديدًا لدعم الاحتياطات الأجنبية أطلق عليه اسم Contingent Reserve Arrangement، وهو بديل عن دور أساسي يقوم به صندوق النقد الدولي، والثالث هو نظام بريكس للمدفوعات، والرابع هو دار نشر الإحصاءات لدول البريكس، والخامس والأخطر هو إنشاء سلة عملات جديدة للدول الأعضاء في بريكس.

ولو تمعّنا في هذه المؤسسات لرأينا أنها تواجه منظمات دولية أساسية وهي البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وإحصاءات الأمم المتحدة، ونظام المدفوعات الذي يمكن تطويره لإحداث نظير لنظام سويفت الأميركي، ونظام آخر للتخلي عن الدولار في تسديد المدفوعات بين الدول، واستبداله بوحدة نقد جديدة تقوم على احتياطات دول البريكس.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد