“السلام” مع “اسرائيل”: النسخة الرابعة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

مَطلَع العقد الثالث من القرن الماضي بدأَ الحراك الفعلي للحركة الصهيونية، والذي انتهى بإقامة دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلّة منتصف العام 1948. ومنذ ذلك الحين انطلق حراك مُتَمِّم للحراك المنجز الذي سبقه، ألا وهو “تطويع” كافة دول الطَّوق التي تحيط دولتهم المزعومة.

من البداية تَكَوَّنَت لدى الصهاينة قناعة أن لبنان سيكون أول المطبِّعين، وسيلتحقُ سريعًا برَكب مشروع السلام الشامل في المنطقة، الذي كانت تحضِّرهُ بريطانيا والولايات المتّحدة بشكل رئيسي آنذاك. تَشَكَّلَت هذه القناعة نتيجة التركيبة الديموغرافية والإثنية في لبنان، والسياسية في آنٍ معًا. وحتى أثناء قيام الثورة العربية في الثلاثينيات، لم يشارك لبنان الدولة فيها، ونأى بنفسه عنها، فاقتصر الدعم اللبناني على “غضّ البصر” عن المقاتلين السوريين والأردنيين والفلسطينيين، وغيرهم من الجنسيات العربية، الذين استخدموا المعابر اللبنانيّة في حركتهم الثورية ضد بريطانيا والحركة الصهيونية.

السلام الأوّل
منذ تأسيسها عام 1976 على يد بشير الجميّل، عمدت القوات اللبنانية إلى فتح علاقات مباشرة مع الكيان الصهيوني. وعندما اشتدّ عودها واجتَذَبَت شرائح واسعة من المجتمع المسيحي اللبناني، خصوصًا الشباب منه، رسم بشير خطة الوصول الى السلطة، التي كانت قائمة على ركيزة أساسية وهي العلاقة مع “إسرائيل”، وعبر مساعدة الأخيرة، في مقابل تعهُّد الجميّل بتوقيع اتّفاق سلام مع “صديقته” القابعة على أراضي فلسطين جنوب لبنان. مثَّلَ هذا المسار محاولةً أولى لتحقيق “السلام” الرسمي، وكانت ذروته عند وصول رئيس القوات إلى سدّة الرئاسة، بمساعدة العدو الاسرائيلي الذي كان قد اجتاح لبنان قبل ثلاثة أشهر من ذلك الحين. لكن بعد أقل من شهر على تولّيه للمنصب، اغتيلَ بشير الجميّل، ومعه سقط مشروع التطبيع الأول.

سلام النيو ليبرالية
عام 1989 كان مفصليًّا في تاريخ الجمهورية اللبنانية، حيث انتهت فيه فعليًا الحرب الأهلية الكارثية التي دامت 15 عامًا (انتهت رسميًا في 13 تشرين أول عام 1990). أُعلِنَ عن انتهائها في اتفاق جمع أركان الدولة والميليشيا التي تقاتَلَت فيما بينها، سُمّي هذا الاتّفاق باتفاق “الطائف”. هذا في الظاهر، أما ما أُضمر منه فكان أكثر عُمقًا وأشدّ فتكًا. تقاطعَت حينها مصالح الدول الغربية بشكل رئيسي على رؤيتَيْن أساسيَّتَين: استغلال “صدمة” الحرب اللبنانية للسيطرة الرأسمالية على السوق اللبناني ولَبرَلَتِه، وحماية أمن “اسرائيل”.

شكَّلت تلك الرؤى مشروعًا متكاملًا يحقّق السيطرة الامبريالية على لبنان بشكل مطلق، وقد جُعِل المقصدان متكاملَين ومُكَمِّلَين، ضمن إطار مُخَطَّط إقامة “سلام” شامل في المنطقة ضمن مشروع اقتصادي ليبراليّ تهيمن عليه الامبراطورية الأميركية وتسيطر على مفاصله ومسالكه، تكون “اسرائيل” شريكة كليّة كـ”دولة” مُعتَرَف بها من قبل دول غرب آسيا، من الطبيعي أن يكون لبنان أولها. وبذلك يكون الهدف أضحى في خدمة “إسرائيل” بالدرجة الأولى، كقاعدة استعمارية تمثّل دول الغرب على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تَفَرَّدَت في حكم العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. عندها دخل البلد في نفق النيو ليبرالية التي تتحقَّق فعليًا عندما تصير “اسرائيل” عضوًا رسميًا في المنطقة، وهذا لا يتحقَّق إلا بسَيطرة الأخيرة على القرار في بلدان الطوق، واحتلال القسم الشمالي منها، أي لبنان، الذي يمتلك الموارد المالية والثروات البحرية، والمرفأ الأهم حتمًا. سقط هذا المشروع المتكامل عام 2000، عندما تداعى ركنٌ من رُكنَيْه، ألا وهو السلام مع “إسرائيل”، بعد انسحاب الأخيرة مرغمةً منه تحت وقْع ضربات رجال المقاومة.

السلام الآذاريّ
في مطلع الألفيّة الثالثة، صار العامل الوحيد الذي يحول دون إجراء تطبيع مع العدو هو وجود حالة المقاومة وتعاظم قدرتها، وبالتالي وَجَب على “إسرائيل” وراعيها الأميركيّ أن يفكّرا بطريقة للتخلّص من تلك العقبة، بعد تجهيز الأرضية اللازمة لاحتواء “السلام” المنشود وتحضير ركائزه الاقتصادية. بدايةً حاول الأعداء الابتعاد عن المواجهة العسكرية، خوفًا من التورّط في هزيمة لا تحمَد عقباها وتزيد الطين بلّة، فتَمّ تفعيل أدوات المواجهة الداخلية لعزل المقاومة داخليًا عن المجتمع اللبناني وتكبيلها وإسقاط مفاعيلها المؤثّرة، عبر إنشاء فرقة 14 آذار، الذين تبنّوا مشروع كسر المقاومة علانيةً ومن دون مواربة. لكن الأهداف المرجوّة لم تتحقَّق سريعًا. على إثر ذلك، شنَّ العدو حربًا عسكرية لسحق المقاومة في العام 2006، لكنه مُنِيَ بهزيمة نكراء وانقلَب السحر عليه.

جُنَّ جنون رُعاة مشروع “السلام” وأعلنوا الحرب الشاملة على المشروع المقاوِم، الذي باتَ يشكِّل العائق الاساسي أمام مسعى الاعتراف بـ”إسرائيل” وفتح علاقات رسمية معها.

فشلت كل محاولات عزل المقاومة، وفشلت معها مساعي تشويه قدسيَّتها وأبلسة مسارها وتقويض فاعليّتها، كما واستدراجها إلى اقتتال داخلي يكون كفيلًا في إنهاء حالة مشروعيّة تلك المقاومة وإلهائها بالداخل بغية القضاء عليها.

السلام التشريني
بات جليًا أن التعويل على وسيلة 14 آذار لم تعُد مجدية، فقد استطاعت المقاومة احتواء الهجمة، وانتقلت إلى موقع ردِّها وإبطال مفاعيلها، وعَلِمَ الأميركيّون أنهم بحاجة إلى استراتيجيّة أخرى تنجز لهم مشروعهم بأدوات مختلفة، وكان قرار استبدال “العتاد” بطقم جديد يصلح للمواجهة المحدَّثة، يكون مقبولًا للجيل الجديد وغير مورَّط بمكامن فساد ظاهرة ومباشرة. في الحقيقة، استخدم الأميركيون، والغرب من تحتهم، هذه الاستراتيجية في عدة دول، طبعًا مع اختلاف الأهداف، التي كلها تندرج تحت إطار إحكام الهيمنة الاميركية.

شكّل العام 2019 نقطة محوَرية في مسار الصراع بين مشروع المقاومة والمشروع الأميركي. يمكننا القول إن مظاهرات 17 تشرين هي مظاهرات 14 آذار بنسخة منقَّحة (طبعًا مع الفارق أن الكثير من “ثوار” 17 تشرين لم يكونوا على علم بأنهم سيضحون ألعوبة في المشروع الأميركي، وذلك يعود للأسف لقلّة الوعي السياسي الذي طالما تحدّثنا عنه)، إذ إن الأولى أطلقت صافرة البداية لتنفيذ الخطّة الجديدة في سبيل تحقيق الهدف الأسمى لكل الأزمنة، ألا وهو إقامة إطار حاضن ضمن الدولة اللبنانية يعترف بـ”إسرائيل” كدولة وينزع كافة مقوّمات القوة ويزيل كل العوائق التي ترفع لواء المقاومة ورفض الاستسلام لـ”إسرائيل”.

وإذا كانت الحملة الأولى في الثمانينيات أمنية، والثانية في التسعينيات اقتصادية، والثالثة سياسيّة، فإن معركة “السلام” مع “اسرائيل” الحالية هي معركة في ميدان الوعي والفكر، هي مواجهة فكرية وثقافية.

وقد ضاقت السبُل لدى قوى الاستعمار لإخضاع هذا البلد الصغير، ووجدوا أن المرتَكَز الأساسي الذي يسند قوة المقاومة ويجعلها عصيّة على الهزيمة هو الخلفية الثقافية لدى جمهورها وبيئتها، والوعي الفكري الذي يتمتّعون به، والرؤية الواضحة لطبيعة المعركة التي يواجهونها، ومعرفة العدو الذي يتربّص بهم. وعليه، فإن الوُجهة المستهدَفة أصبَحت “مبنى القيَم” لتلك القوة التي عصَت على الانكسار. وهذا المبنى يضم بين طيّاته مكوّنات العناصر التي ذُكِرَت، ويجعلها متينةً لا يمكن مواجهتها بالمباشر خيفة أن تحترق من أول الطريق.

لذلك، عمد الأعداء إلى شنّ حملة هوجاء، غير مسبوقة بالتاريخ اللبناني، على المقاومة بكل مكوّناتها، خصوصًا تلك المقوّمات المعنويّة منها. يدير تلك الحملة وسائل إعلام وكُتّاب ومؤثّرون ونُخَب وإعلاميّون، ومُرتَزَقة من داخل نطاق مجتمع المقاومة ومن خارجه؛ رَصّوا الصفوف وأعدّوا العدّة لكسر القوة التي تشكّل سدًّا منيعًا جدًا أمام مطامع المسحورين بحضارة الغرب، و”دُبَي”، أولئك الذين لا يرون مشكلة في الاعتراف بالعدو الذي من أجله تَفَتَّتَت منطقتنا وأصابتها الويلات وملأتها الفتن والحروب، وهم مخطئون طبعًا، ولينظروا إلى حال الأردن ومصر، والسودان أيضًا.

وبالطبع، فإن نواب “تشرين” مشتركون حتى العظم في القضية، فما هم إلا خلاصة لمشروع ابتدَأ منذ 3 سنوات، ولا يزال في طَور النمو.

إذًا، نحن لا نزال في منتصف المعركة، ولا زلنا نحتاج إلى الكثير الكثير من المواجهة والصبر. لكن علينا أن نمتلك اليقين الذي لا شكَّ فيه، أن العدوّ يرمي بآخر أوراقه، وأن أوضاعه في كلّ العالم متأزّمة، وأن المستقبل يوحي بالفرج على شعوب أمّتنا طالما لم تتخّلَّ عن درب المقاومة ومكافحة المستعمِرين وأبنائهم.

ونحن على مشارف ذكرى انتصار الثورة الاسلامية في إيران، تلك التي هزمت أعتى قوى الاستكبار في العالم، علينا أن نتعلّم من مسالكها وعواملها وركائزها. بناءً عليه، يكون الردّ على الأعداء بدايةً بتدعيم الوعي السياسي والثقافي، وثم التمسُّك بالمبنى القيَمي والمحافظة عليه والثقة به، والترَبُّص بمكائد العدو واستكشاف مؤامراته، حتى لو أتى إلينا من الخلف. وطالما أن معركتنا هنا، وجب إعداد عناصر القوّة وتمتينها وجعلها مُصَوَّبة نحو صدر العدو دائمًا.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد