خلال العقود الخمسة الماضية تنامت الديون العالمية سواء على مستوى القيمة المطلقة، أو على مستوى نسبة الدين إلى الناتج الإجمالي العالمي، حتى وصل إلى مستويات غير مسبوقة، تهدد بحصول أزمة ديون عالمية متركزة في الاقتصادات الناشئة، وإن كانت الدول الغنية غير معفية منها أيضًا.
ولن يتوقف أثر أزمة الديون العالمية، على الحكومات فحسب، بل يمكن أن تمتد إلى القطاعات الخاصة في كل مكان، وكذلك سيمتد أثرها إلى الدائنين أنفسهم، إذ إن عجز المدينين عن دفع ديونهم يعني خسائر ضخمة للدائنين، ومن المتوقع أن ينتقل الأثر الاقتصادي بالعدوى من دولة إلى أخرى، متسببًا عبر «أثر الدومينو» في كرة ثلج متدحرجة، قد تفضي إلى حصول أزمة عالمية ضخمة تضرب معدلات نمو الإنتاج.
ويحدق هذا الخطر بالعالم في وقتٍ ما زال يعاني فيه من آثار جائحة كورونا، ومفاعيلها الاقتصادية منذ عام 2020، والتي كان أحد أوجهها زيادة الاستدانة، وخصوصًا في الدول الأكثر فقرًا والأقل قدرة على تمويل الإنفاق لمعالجة تداعيات الجائحة، فيما تحتاج الكثير من الدول إلى رفع الإنفاق لاحقًا لتحفيز النمو الاقتصادي وإنجاز التعافي من الركود، ولكن ما هو حجم الديون العالمية؟ وهل هو فعلًا بكل تلك الخطورة؟
سادة الظل.. هل العالم مِلكٌ للدائنين؟
في العادة يدور الحديث عن دين حكومةٍ ما، وقد يجري احتساب نسبة هذه الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي لهذا البلد؛ لكن الحكومات ليست الطرف الوحيد الذي يستدين لتغطية الفرق بين النفقات اللازم صرفها والإيرادات التي يحصلها، بل هناك ثلاثة قطاعات أخرى غير حكومية تستدين في العالم، هي الشركات غير المالية (العاملة في مختلف مجالات الصناعة والزراعة والخدمات)، والشركات المالية (البنوك وشركات التأمين وغيرها)، والقطاع المنزلي، والذي يستدين لتمويل استهلاكه من مختلف السلع والخدمات، أو لتمويل مشروعات استثمار فردية.
ويقترب العالم اليوم من تسجيل رقم قياسي في القيمة المطلقة للديون، والتي قاربت على الوصول إلى ما قيمته 300 تريليون دولار، تتحملها مختلف القطاعات المذكورة أعلاه، والذي نما بمقدار الثلث بين عامي 2014-2021، ومعه نمو إجمالي في نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في الفترة نفسها، وبمقدار 70 مليار دولار تقريبًا، وإن قلت النسبة بين عامي 2020 و2021، بفعل عملية التعافي الاقتصادي وارتفاع النواتج المحلية الإجمالية في العالم عام 2021.
غير أن نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي ما تزال مرتفعة جدًّا؛ فقد وصلت إلى 353% في عام 2021 من الناتج الإجمالي العالمي مجتمعًا، حتى بعد نزولها من 362% في 2020، وهو العام الذي اضطرت فيه الدول الغنية وحدها إلى إنفاق 12 تريليون دولار؛ أي ما يعادل 31% من إجمالي نواتجها المحلية مجتمعة لمواجهة كورونا، دون احتساب ما فعلته البنوك المركزية العالمية من عمليات خلق أموال وتخفيض كبير في أسعار الفائدة.
وبلغ الناتج العالمي الإجمالي (بسعر الدولار الحالي) 84.5 تريليون دولار في عام 2020، بينما تبلغ الديون المترتبة على حكومات العالم 86 مليار دولار، أي أكثر من الناتج العالمي الإجمالي بترليون دولار ونصف، وبلغت الرقم نفسه بالنسبة للشركات غير المالية، بينما تبلغ ديون القطاع المالي 69 تريليون دولار؛ وهو ما نسبته 81% من الناتج العالمي، وأخيرًا يبلغ دين القطاع المنزلي 55 تريليون دولار، وما نسبته 65% من الناتج العالمي.
وتقوم آلية الديون على توفير المال الفائض من قبل من يملكه، وتقديمه إلى من يحتاج هذا المال لتمويل استهلاكه أو استثماره، وتوفر الديون آلية سهلة للربح دون أن يشغِّل الدائن ماله مباشرة، ويكافأ الدائن بسعر فائدة أعلى كلما كان المدين يحمل مخاطر أكثر لعدم السداد، كما يوفر للدائنين آليات كثيرة لضمان حقوقهم.
وعبر الديون فإن من يملك فائضًا من المال يربح على حساب من يقوم بتشغيله، فهي آلية لتوزيع الثروة تعمل فعليًّا على نقل المال من يد إلى يد، بناء على امتناع من يملك المال عن استهلاك أو استثمار ماله اليوم، مقابل إقراضه لمن يحتاج لإرجاعه في المستقبل، دون أن يكون للدائن أي دور في أي عملية إنتاجية، ورغم أهمية توفير التمويل لمن يحتاجه، ومركزية الديون في الاقتصاد العالمي اليوم، فإن مثل هذه النسب تعني أن العالم مملوك للدائنين.
ويعاني المواطنون العاديون أكثر من غيرهم من الديون؛ فعلاوة على ديونهم المباشرة (الديون المنزلية)، والتي تبلغ أكثر من 65% من الناتج العالمي الإجمالي، فهم من يتحمل نسبة كبيرة من عبء دين حكوماتهم؛ والتي تدفع ديونها من خلال الضرائب التي يدفعونها للحكومة، كما أن نسب الديون المرتفعة في الشركات، قد تؤدي إلى تخفيض الأجور وتقليل التوظيف؛ ما يعني وظائف سيئة وأقل، وبطالة أعلى، وقدرة أقل على تحمل تكاليف معيشتهم ودفع ديونهم اليومية.
على حافة الأزمة.. هل سنسقط في هوة الديون؟
يحدد الاتحاد الأوروبي النسبة الآمنة للدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي في بلد ما، عند نسبة 60%، مع معدل نمو 3% كل عام، وقد تجاوزت النسبة العالمية للديون الحكومية على الناتج المحلي الإجمالي هذه النسبة بكثير، بينما يبلغ معدل النمو 3% تقريبًا في العشرة أعوام الماضية.
وهذه النسبة التي حددها الاتحاد الأوروبي تقتصر على ديون الحكومات فقط، ولا تتعداها إلى أنواع الديون الأخرى، ولا تملك كل دول العالم نسبة دين متشابهة أو متقاربة، بل إن بعض الدول تساهم في تخفيض هذه النسبة كثيرًا نظرًا إلى انخفاض نسبة ديونها إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهناك دول أخرى تساهم بشكل أكبر في رفع معدلات النمو العالمية، فالصين مثلًا مدينة بـ66% نسبة إلى ناتجها الإجمالي، وهي من النسب المنخفضة مقارنة بغيرها من الاقتصادات الكبيرة؛ إذ يملك غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية دينًا عامًّا يتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي، والصين أيضًا من أكبر المساهمين في رفع معدلات النمو العالمية.
الأزمة المالية في 2008
تاريخيًّا؛ ترتبط موجات الديون الضخمة بأزمات مالية عميقة هزت اقتصادات العالم، وكانت آخر الأزمات المالية العالمية المرتبطة بالديون هي أزمة عام 2008، وللمفارقة فإن الأزمة المالية العالمية أطلقت الموجة الحالية من التوسع في الديون والاقتراض في العالم، ثم جاءت جائحة كورونا لتعمق هذا الاتجاه أكثر، وتزيد من الاعتماد على الديون والحاجة إليها، وتسهل البنوك المركزية العالمية عمليات خلق الأموال وتخفض الفوائد لتصبح الديون أقل تكلفة.
ولا يمكن التنبؤ بدقة بميعاد الأزمة القادمة، ولا بالشكل الذي ستطل به على العالم، ولكن بأخذ الأرقام والنسب المبينة أعلاه بعين الاعتبار، وكونها تنمو بشكل مضطرد، وأن الأزمات المالية جزء لا يتجزأ من طبيعة اقتصاد العالم، ولكون الاقتصاد العالمي مرتبطًا بعضه ببعض بشكل وثيق، ما يعني إمكانية انتقال الأزمة على نمط الجائحة نفسه وبشكل مُعْدٍ من بلد إلى آخر، فإن ذلك يعني أن احتمالية أن يكون العالم على حافة أزمة عالمية جديدة (عنوانها الديون) احتمال مرتفع جدًّا.
فخلال الفترة الماضية القصيرة شهدت العديد من البلدان أزمات مرتبطة بالديون لم تكن كبيرة بما يكفي لإشعال أزمة عالمية، فالانهيار الاقتصادي في لبنان متعلق بأزمة الدين العام فيه، والأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا مرتبطة بأسعار الفائدة، وبالنمو المعتمد على الاستدانة من الخارج، من طرف القطاع الخاص التركي تحديدًا، بشقيه المالي وغير المالي.
وتعد أزمة شركة إيفرجراند (Evergrande) الصينية أوضح مثال على ما قد يحصل في العالم نتيجة لأزمة ديون؛ فقد تسبب تخلف شركة واحدة عن دفع بعض دفعات ديونها إلى اضطراب في الأسواق المالية العالمية، ومخاوف من مخاطر مرتفعة على دائني الشركة من الإفلاس أو تحقيق خسائر كبيرة، وانتقلت العدوى إلى الأسواق المالية التي انخفضت أسعار الأسهم فيها بشكل ملحوظ وفي يوم واحد، نتيجة للمخاوف من تباطؤ الاقتصاد الصيني، وما يعنيه ذلك من تباطؤ التعافي العالمي من جائحة كورونا.
ويتفق الكثير من المحللين على أن أزمة ديون قادمة لا محالة؛ ما لم يعمل العالم بشكل مشترك على معالجة مشكلة الديون، وإطلاق عملية إصلاحات كبيرة للاقتصاد العالمي والأسواق المالية، تقضي على الإدارة السيئة للديون، وتوقف الطريق نحو أزمة تؤثر في العالم أجمع، في ظل نظام اقتصادي يعترف حتى بعض المدافعين عنه بانطوائه على تناقض أساسي داخلي.
توماس بيكيتي
ويخلص الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» إلى أن اقتصاد السوق ينطوي على تناقض أساسي، تمثله معادلة (g<r، النمو<العائد على رأس المالي)، والتي تعني أن نمو ما ينتجه العالم في اقتصاد السوق كل عام، أصغر من نمو الأرباح التي يكوِّنها رأس المال؛ فالثروة تعيد إنتاج نفسها على شكل ثروة بأسرع مما يستطيع العالم أن يحققه من نمو الإنتاج من السلع والخدمات.
ويعني ذلك أن إحدى أهم مشكلات العالم اليوم تتعلق بالتوزيع وليس النمو، فهناك خلل أساسي كامن في اقتصاد السوق يعمق الفجوة بين الأثرياء وبقية سكان العالم، وينتج في النهاية أزمات اقتصادية تضر بالجميع؛ ولكن ضررها على الأكثر فقرًا أكبر بكثير، والديون إحدى آليات توزيع الدخل والثروة في العالم.
ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.