يقول مؤلفا كتاب «السيد بايب» إن هيرام عباس كان يتلقى معلومات عن الطلبة الأتراك في المنطقة، وعن هوية من يتلقى منهم التدريب على حمل السلاح، من الموساد. وقد نسق نشاطاته مع وكالة الاستخبارات الأميركية، وقام بأنشطة في اختراق الفصائل الفلسطينية وتصفية بعض الأتراك الذين كانوا يتلقون التدريب عندها. وتلقى عدة مكافآت عن عمله هذا. ورغم هذا كله، فشل عباس وشريكه فشلًا ذريعًا أمام «الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا» – آصالا. لقد تمكن هذا التنظيم من اختراق السفارة التركية، ومعرفة أدق تفاصيلها، وتحديد مَن مِن الدبلوماسيين هو ضابط أمن متنكر، وقام بعدة تصفيات في صفوفهم، على رأسها السفير نفسه إسماعيل أريز. ويبدو أن هذا ما أوغر صدر قادته عليه، فأرسلوا عميلًا آخر، قادمًا من صفوف الجيش، اسمه نوري غونديش، وعاد عباس مع عائلته إلى اسطنبول، وانتهت بذلك مرحلة وبدأت مرحلة جديدة، لم تكن أقل دموية. ولكن فشل عباس هنا لم يقف عائقًا أمام ترفعه حتى تقاعد في منصب معاون رئيس الاستخبارات.
يقلل أيمور، في مذكراته، من نجاحات غونديش، ويقول إن المجموعة الكردية، التي كان عباس قد أسسها، كانت أكثر فعالية. يروي أن مجموعة غونديش فجرت في إحدى المرات عبوة تحت نصب أرمني، وفي مرة أخرى فخخوا سيارة. «عمليات محدودة» كما يصفها باستصغار، مفيدًا بأن اهتمامها الأكبر كان منصبًا على تهريب المخدرات. غير أنه كان لأنقرة رأي آخر، فقد بات غونديش أهم شخصية تمسك بملف مكافحة تنظيم «آصالا» إلى جانب شخص آخر اسمه أركان غورفيت، هو صهر الجنرال ذائع الصيت كنعان إيفرين، الذي كان سيقوم لاحقًا بتنظيم انقلاب عسكري مطلع الثمانينيات، يصبح بنتيجته ديكتاتورًا يجمع كامل السلطات بيده.
اعترف الجنرال الراحل، في لقاء مع صحيفة «صباح» في وقت لاحق، بأن صهره نفذ عدة عمليات أمنية في لبنان، ضد «آصالا» على الأغلب. وقد ساعدته فيها زوجته، ابنة الجنرال، شيناي غورفيت، التي كانت بدورها تعمل في الاستخبارات الوطنية. أصبح غورفيت عام 1982 مستشار الشؤون الأمنية لحميه الطاغية، أما غونديش فتسلم مهمة إدارة منطقة إسطنبول، وبعدها أنقرة، في بنية الاستخبارات. ونعلم اليوم أن الرجلين استدعيا زعيم مافيا آخر لمساعدتهما، هو عبد الله جطلي. ويمكن القول إنه محترف أكثر من جاقيجي، حتى ليمكن القول إنه قاتل مأجور أكثر من كونه مجرمًا مقاولًا.
أسس الثلاثة مجموعة من التركمان من كركوك العراق، وامتد نشاطها إلى عدة دول، نعلم منها اليوم: قبرص واليونان وانكلترا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا إضافة إلى لبنان بالطبع. وتقدر بعض المصادر عدد عملياتها بقرابة عشرين عملية مسلحة. ولا زال الأتراك حتى اليوم يتجادلون حول أي من «مجموعة الماردينيين» و«مجموعة الكركوكيين» لعب دورًا أكبر في إنهاء ظاهرة «آصالا».
صرنا في النصف الأول من الثمانينيات. وصل جيل من الحرس الحديدي إلى قيادة أجهزة الأمن في كل من دمشق وأثينا. ففي دمشق برز رجال من أمثال محمد ناصيف وعلي حيدر وعلي دوبا، وفي أثينا برز العقيد سافاس كالنديريديس. أسس القوميون العرب والقوميون الإغريق محورًا جديدًا ضد أنقرة. وبموجبه منحت تنظيمات المعارضة التركية المسلحة إمكانات غير مسبوقة، فتم تأسيس «حزب العمال الكردستاني» ومنح معسكرًا في منطقة البقاع في لبنان. كما تم منح معسكر لـ«جبهة التحرير الثوري» في نفس المنطقة. فتحت أبواب العاصمتين على مصاريعها أمام الحركات الثورية المناهضة للنظام التركي. كما جرت محاولة إحياء «آصالا» من جديد. وافتتح بدوره معسكرًا في البقاع.
هذه المرة لم يتمكن الأتراك من تنظيم مجموعات عرقية صغيرة ومتشددة كالماردينيين أو الكركوكيين، وحاولوا التعويض عن هذا بنسج علاقات مع العشائر التركمانية في البقاع. لقد استثمروا في كثير من الحالات رغبة أبناء المنطقة بالدخول في خدمة أنقرة مقابل إرسال أولادهم للتحصيل فيها. وقد لعب «حزب الحركة القومية» دورًا واضحًا في تنظيم الشبكات هذه. على أن الاستجابة التركية للتحدي الجديد لم تكن على القدر الكافي، فقد كان من علائم نجاح استراتيجية محور دمشق – أثينا أن «جبهة التحرير» وحدها نفذت عشرات الاغتيالات في تركيا لعدد من كبار الضباط والسياسيين، من بينهم هيرام عباس نفسه، إذ تمكنت خلية من تعقبه وقتله في سيارته. وسقط بايبه المشهور على فخذه الأيمن بعد أن التوت رقبته إلى الأمام واليمين بشدة تحت تأثير طلقة أتته من الخلف واليسار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.