الفكر الصهيوني العسكري يخضع للمساءلة الشاملة: ما الذي أنتجه 7 أكتوبر؟

28

لم يأتِ السابع من أكتوبر إلا استدراكًا قسريًا للفكر العسكري الصهيوني، لا لينفي ما قبله بل ليعيد هندسته بما يتناسب مع طبيعة المخاطر المستجدّة، ليس كدينامية تطور بل كاستجابة حتمية لأولوية البقاء. صدمة كهذه ما كانت لتحدث لولا ثغرات بنيوية لا يمكن القفز عنها إلاّ لو أراد الجيش المضي برجل واحدة أو ربما لاحقًا بلا رأس. في الظاهر تبدو عملية التحولات في الفكر العسكري أشبه بمسار تطويعي سريع، في العمق هو صراع مفاهيمي أكثر صلابة.

أهمية هذه التأثيرات تكمن في جرأتها على إعادة صياغة ركائز الأمن القومي، وتطرح أسئلة جوهرية في المفاهيم العسكرية الكلاسيكية بدءًا من المستوى التكتيكي وصولًا إلى الاستراتيجي، يتمظهر بأكثر من 30 دراسة لمركز “دادو” (مركز يتبع لهيئة الأركان العامة ويهدف إلى تطوير الفن القتالي والتفكير النظامي في الجيش الإسرائيلي ومساعدة المؤسسة العسكرية في المسار التنفيذي للرؤى والخطط) في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، تعكس واقع التأثيرات التي خضع لها الفكر العسكري الصهيوني إن كان على المستوى التكتيكي أو الرؤيوي أو حتّى الإنذار.

بالنسبة للعميد عيران أورتال، والعقيد الاحتياط إيتاي شابيرا، في الدراستين: “التحذير كأداة لتحديد فجوات الصلة في تصوّرات جيش الدفاع الإسرائيلي للبيئة”، و”النور الثمين: أضواء التحذير من عام ١٩٧٣ لجيش الدفاع الإسرائيلي”، فإن إدراك أن ما حدث في 7 أكتوبر لم يكن سوى “صدمة استراتيجية” متكاملة، لن يُحرر الجيش الإسرائيلي من احتمالية “إعادة انتاج” صدمة أخرى مستقبلية بملامح مختلفة؛ ما لم يعد وقبل كل شيء تشكيل الهوية الاصطلاحية لمفهوم الإنذار، يبدأ من التخلص من إلصاق الفشل بشماعة “نقص المعلومات”، وتحرير “الإنذار” من سمته الاستخباراتية، ثم إعادة موضعته داخل منظومة فكرية جماعية بين المخابرات والقيادة الميدانية والسياسية.

عملية التحول هذه، لا تعني عدم تطويع التفوق التكنولوجي في مجال الإنذار، بل باستبدال مبدأ وحدانية “المعلومة” لحسم الإنذار المبكر، بمبدأ إدراكي مفاهيمي يقوم على منظومة تحليل وتعلّم مستمرة لفهم نوايا الخصم والفجوات الإدراكية بين تصوّرات المؤسسة العسكرية والواقع المتحوّل، بمعنى أوضح، تحويل التحذير إلى أداة معرفية دائمة لتصحيح الإدراك المؤسسي.

أما على المستوى التكتيكي، فتسير الدراسات بتوجه بينيّ غير ظاهر لكنه شبه موحّد في التأسيس لملامح تغيرات مشتركة إن كان على مستوى القيادة، إدارة الموارد، التحولات في المفاهيم والاستراتيجيات الأمنية، لتأخذ مسألة إدارة الضغط النفسي والجهد الحربي مساحة كبرى في الفكر الصهيوني كما يظهره منتج مركز دادو.

ففي الوقت الذي لم تنسف دراسة “القيادة في مملكة عدم اليقين: قادة الاحتياط في حرب السيوف الحديدية” للدكتورة شاهار مندلوفيتش، مبدأ اعتماد القيادة الأصيلة (تركز على القيم الشخصية في القيادة) لكن سد فجوات الناشئة بين القادة والجنود يتطلب نهجًا هجينًا يتلاءم مع مبدأ الحرب الطويلة، يكون قادرًا على فرض توازن بين الالتزام العسكري والضغط النفسي، بخلق روتين متكيف مع أيام القتال الطويلة والمهام المجهدة، وربط الجنود بالمهمة الأكبر مع إتاحة قنوات لحوار مفتوح وشفافية مدروسة.

يلتقي الدكتور شاني ألموغ في دراسته “وجهًا لوجه الثقة بالقادة في مواقف القتال في حرب السيوف الحديدية” مع الدكتورة شاهار مندلوفيتش في إمكانية إصلاح الخلل الحاصل في الثقة بين القادة والجنود عبر الحوار، ويجب التعامل مع بناء الثقة كعملية ديناميكية حساسة ومستمرة تُبنى من خلال الكفاءة والحرص.

بينما يذهب اللواء الاحتياط دميتري سكولسكي للتأكيد على أن جوهر انفصال وحدات الاحتياط عن الواقع ليس في “ما يعيشه” الجندي بل في “كيف يعيشه”، وأن الحلّ يكمن في بناء زمن مشترك جديد بين الحرب والوطن، بين “الآن العسكري” و”الآن المدني”، وهذا ما يتطلب بطبيعة الحال حسب دراسة العميد الاحتياط آري سينجر في دراسته “تشكيل الاحتياطيات في حرب السيوف الحديدية” القيام بإصلاحات في نظام التدريب وإعادة تظهير جندي الاحتياط بمكانة أثقل اجتماعيًا ومؤسسيًا، بالتساوق مع تحديثات بنيوية لتقليل الفجوة مع القوات النظامية.

في التفاصيل الأعمق والأشد حساسية، تدخل عملية تشريح المناورتين البريتين في غزة ولبنان في دراسة العميد الاحتياط مائير فينكل “المبادرة والرسالة/ القيادة اللامركزية والقيادة الفردية/ المركزية في المعركة البرية في حرب السيوف الحديدية”؛ إلى توجه أكثر حدة في ضرورة تبني نهج هجين يُقدم توازنًا ديناميكيًا، يقوم على اعتماد مبدأ تمكين اللامركزية كما في غزة، والمركزي الدقيق كما في لبنان، تُبنى مرتكزاته على إعادة تدريب قادة الوحدات على خوض مواجهة مرنة في واقع ديناميكي، وتمكين القيادة الميدانية من صلاحية اتخاذ القرارات في البيئة القتالية المعقدة والمتغيرة، مع إعطاء الأولوية القصوى لمعالجة الفجوات الثقافية بين القيادة وبناء القوة.

تمتد هذه التوصيات لتشكيل مسارات رؤيوية تحديثية للفكر العسكري الصهيوني، ترتكز على ضرورة إجراء عملية تقليم وإصلاح في أساس نظرة إسرائيل للحرب، أكثر واقعية ومنطقية من حيث القدرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية وقابلية تنفيذها، وأكثر توازنًا في صياغة مفهوم النصر، وقراءة التهديدات بالدمج بين الردع، والمناورة الهجومية، والتماسك الوطني، حسب رؤية العميد ران كوخاف والعميد عيران أورتال في دراستهما “نقاش مهني بين الدفاع والهجوم، وفي النهاية اتفاق مفاجئ”.
بشكل أو بآخر تطرح الدراسات سؤالًا محوريًا: كيف يتوجب على إسرائيل إدارة الحرب؟ عند هذه النقطة يتم تخريج الثغرات بمسار تمردي على الواقع، أولها وللمفارقة العودة إلى المفهوم الأمني التقليدي، لأن المشكلة لم تكن في المفهوم الأمني التقليدي بحد ذاته، بل في سوء تطبيقه، ولم تأت الحرب الطويلة إلا باستنزاف كان من الممكن تفاديه، كما يرى العقيد الاحتياط غور ليش في دراسته “هل الحرب الطويلة في غزة تعبير عن مفهوم أمني جديد أم تطبيق خاطئ لمفهوم قائم؟”.

ثم يتعقد السؤال أكثر: كيف يمكن لإسرائيل عدم تكرار أخطاء الحرب؟ أولًا وقبل عملية بناء القوة، يرى الكاتب نيفو شبيغل في دراسته “إزالة الردع من المعادلة”، أنه لا بدّ من بناء فهم مغاير لمفهوم “الردع” الإسرائيلي، لكونها أداة فكرية غير متناسبة في بيئة الصراعات غير المتماثلة، إذ توسع المفهوم مؤخرًا وخضع لتسييس برر أي سلوك عسكري من دون الأخذ بمعايير النجاح أو الفشل، كل ذلك نتيجة الانقياد بـ”الخوف” أمام خصوم يملكون دوافع أيديولوجية ودينية متجذرة، بمعنى تضييق مصطلح الردع بوصفه محورًا مركزيًا للفكر الأمني الإسرائيلي واستبداله بـ” التحفّظ المفاهيمي” ليقتصر على سياقات محددة يمكن قياسها: كالفهم المعرفي للعدو، الاستعداد الدفاعي المرن، المبادرة العملياتية بدلًا من رد الفعل العقابي. يتحدث هنا عن بناء استراتيجية متعددة الأدوات تجمع بين الردع، الاحتواء، والوقاية الاستباقية من دون الأخذ بعقلانية الخصم.

في الدرجة الثانية، لا يمكن التعامل مع مرحلة بناء القوة كما يشدد الرائد كيم بار في دراسته “جوانب في تطوير المكونات العسكرية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي” بمعايير لا تتوافق مع طبيعة التهديدات، ففي عملية بناء القوة يجب أن تُخصص موارد لبناء “قدرات مرنة وصغيرة متخصصة” قادرة على مواجهة التهديدات غير التقليدية، بالتوازي مع إدماج جوانب الحماية المدنية والقدرات الطبية واللوجستية ضمن تخطيط القوة، بمعنى آخر تطوير المكوّنات العسكرية كاستجابة متواصلة لمزيج من الظروف الاستراتيجية والتكنولوجية والسياسية؛ وأي صيغة مستقبلية للأمن القومي تحتاج لمرونة تكتيكية واستراتيجية متوازنة.

على أن عملية إعادة تعريف المفاهيم الأمنية العسكرية بعد 7 أكتوبر، لم تتوقف عند الردع بل توسعت إلى جوهر مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي ككل: (الردع، الإنذار، الحسم)، واقتراح مفهوم بديل عن النموذج الكلاسيكي بمكون من أربعة عناصر جديدة تركز على المرونة والقدرة على التكيّف بدلًا من الحسم الفوري والردع التقليدي، حسبما أشارت دراسة “في ضوء حرب السيوف الحديدية – البعد العسكري لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي” العميد الاحتياط مائير فينكل.

فيما لم يقتصر التحول من سياسة “الاحتواء” إلى “المبادرة والهجوم” إلى كونه توجهًا استراتيجيًّا في دراسة “من الاحتواء إلى التصميم المكاني – اقتراح لإعادة التفكير في مبدأ مركزي في مفهوم الأمن القومي” للعقيد الاحتياط إينات غافنر غولدشتاين ولا حتى خطاب آني بحكم المرحلة، بل أصبح قرارًا استراتيجيًا تمظهر في الساحات المفتوحة إلى الآن، باعتبار أن سياسة الاحتواء قادت إلى جمود استراتيجي ووهم الأمن عبر الجدران، أما الآن فالضرورة تقتضي كسر حدود هذه السياسة وتطوير مفهوم أمني أكثر استباقية وشمولًا، اسماه غولدشتاين، مبدأ التصميم المكاني الإقليمي كبديل استراتيجي لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، يقوم على تجاوز منطق “الردع والاحتواء” إلى التحكم في بيئتها المكانية والسياسية.

ضمنيًا، تُدرك المؤسسة العسكرية الصهيونية أن جملة التحولات والحملات المفاهيمية المستجدة، هي مدفوعة أولًا وأخيرًا إما بالضرورة، أو نفاد البدائل، ولا تكون رهانًا واقعيًا بضمان نجاح استراتيجي، ليس فقط لأنها لم تخضع لاختبار جدوى فعلي، بل لنقص في تقديرات استجابة الخصوم وافتقار إلى توظيف زمني متعدد، وقياس غير واضح في التفاعلات متعددة الاتجاهات، ما قد يحاصر إسرائيل في حلقة مغلقة، فهي قبل كل شيء تعالج عوارض الفشل، بينما تكمن الأزمة في بنيتها الاستعمارية.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.