في خضم المشكلات والانهيارات المتسارعة التي يشهدها البلد، وفي ظل الغليان السياسي الذي لا يعرف معنى للهدنة، عادت إلى الواجهة مؤخرًا ومجددًا أزمة قطاع الاتصالات في لبنان، وهذه المرة بصورة أكثر انهيارا وتدهورًا.
هذا القطاع الذي عُرف بـ”نفط لبنان”، يعاني اليوم مستخدموه من تردٍّ كبير جدًا في خدماته، وفي مقدمتها خدمة الإنترنت، وذلك تزامنًا مع التحركات الأخيرة التي بدأها موظفو هيئة أوجيرو، مطالبين الدولة المنكوبة بمنحهم بعضًا من حقوقهم المنهوبة كما هو حال مقدرات وثروات هذا البلد، الأمر الذي يطرح أسئلة عديدة عن حقيقة ما يدور في هذا القطاع وعن مدى فعالية وجدية الحلول المطروحة في هذا المجال وعن إمكانية تطبيقها.
قطاع يعاني الترهّل والسرقة والهدر
قطاع الاتصالات الذي كان يعد فيما مضى ثاني أهم مورد لخزينة الدولة من بعد الضرائب، حيث كان يرفد الخزينة سنويًّا بنحو 1.4 مليار دولار، يقع اليوم في حقيقة الأمر ضمن دائرة تحديات متشعبة الأسهم، تتعلق بالفساد والهدر المقرون بهذا القطاع منذ سنوات ليست بقليلة، وبدور شركتي الاتصالات في ما يجري حاليًّا وما جرى سابقًا في هذا القطاع، فضلًا عن المستجدات المتعلقة بهيئة أوجيرو وتأثير ذلك على خدمة الإنترنت في البلاد.
لطالما كان “الفساد” هو القاسم المشترك بين قطاعات الدولة بأكملها، وقطاع الاتصالات هو واحد من هذه القطاعات “الدسمة” التي عوّل عليها بعض سياسيي هذا البلد لإتمام صفقاتهم ولا زالوا.
وفي هذا الإطار، أظهر التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة في العام المنصرم 2022، وجود مبلغ 6 مليارات دولار ذهبت هدرًا في هذا القطاع، تحت مرأى وموافقة سلسلة من الوزراء الذين تعاقبوا على رئاسة هذه الحقيبة الوزارية لسنوات عديدة، وهذا الرقم جاء نتيجة للإنفاق الخيالي والصفقات المشبوهة والنفقات من دون فائدة، وغيرها من العناوين التي ذكرت مفصلة ضمن التقرير الصادر.
الأمر نفسه ينسحب أيضًا على شركتي الاتصالات “تاتش وألفا”، حيث كان لهما نصيب وافر من مشاريع الهدر والسرقة والإنفاق الخيالي، وأبسط مثال عن ذلك، أن أوجيرو -التي تستورد الإنترنت من شركات أوروبية بالدولار النقدي- تفرض الحكومة عليها بيعه بثمن بخس لشركتي “ألفا” و”تاتش” وللشركات الخاصة، إذ يشترون منها حزمة “إي1″(E1) بنحو 475.000 ل. ل. (نحو 4 دولارات)، في حين تبيعها “ألفا” و”تاتش” للمستخدمين بنحو 200 دولار. كما أن الشركات الخاصة الموزعة للإنترنت تبيع للمشتركين الخدمة بالدولار النقدي، ولا تقل الحزمة الصغيرة عن 10 دولارات، وفق ما أوضح أحد الخبراء في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ومؤخرًا، قامت نقابة هيئة أوجيرو بتنفيذ إضراب استمر لعدة أيام، حيث طالب موظفوها الدولة بتحسين رواتبهم التي أصبحت قيمة معدلها أقل من 50 دولارا، ودفع جزءٍ منها بالدولار النقدي، والحصول على بدل نقل يغطي كامل تكاليف البنزين مع تفعيل ضمانهم الصحي والتعليمي.
خلال أيام الإضراب هذه، خرجت عدة “سنترالات” عن العمل في العديد من المناطق، وذلك تزامنًا مع تردي خدمة الإنترنت، لتعود بعدها النقابة وتعلن تراجعها عن الإضراب، بعد أن تلقت وعودًا بتنفيذ بنود ورقة الموظفين المطلبية، بانتظار الجلسة المقبلة للحكومة.
الحلول المطروحة ترقيعيّة لا جذرية
الحلول المطروحة في الأفق تتمركز حاليًّا بشكل كبير حول “موضوع الخصخصة” إن كان بشكله الكلي أو الجزئي، بعد أن كان القرار قد اتخذ عام 2002 حيث قضى في أحد بنوده بخصخصة القطاع وفتح باب المنافسة لشركاء جدد كسرًا لحصرية الشركتين المشغلتين لقطاع الاتصالات، إلا أن الصراع السياسي القائم في البلد حال دون ذلك ولا زال.
لم تكن المشكلات والأزمات التي يعاني منها قطاع الاتصالات وليدة اليوم إذًا، بل هي نتيجة طبيعية لما عانى منه القطاع على إمتداد سنوات من هدر وسرقة وفساد.
من ناحية أخرى، وجد العديد من الخبراء الاقتصاديين في الأمر حلًّا مؤقتًا لما يحصل في هذا القطاع، وأن الحل الأنسب يكون جذريًّا، يعالج أساس المشكلة لا جوانبها السطحية.
وفي هذا السياق، يجد الخبراء أن الخصخصة في هذا المجال لا تعالج الانهيار، وأن المعالجة الصحيحة تكون عبر خطة اقتصادية شاملة لكافة القطاعات ومنها الاتصالات، تسمح بالنهوض بكافة مؤسسات الدولة، عبر فرض حوكمة جيدة تضمن إدارة الاتصالات وغيرها من القطاعات.
ورغم منطق الخبراء ورأيهم، إلا أن نجاح هذا الأمر برمته يبقى مرهونًا بزوال الطبقة السياسية التي تحكم البلاد، لأنه بوجودها لن تسمح بوضع أي قطاع على سكة الحل الجذري، بعيدًا عن السرقة والرشوات والحصص، وبالتالي فإن كلًّا من خيارات الخصخصة أو الحوكمة لن يجدي نفعًا في وجود سلطة فاسدة، قادرة على تدمير البلاد والعباد من أجل مصالحها العليا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.