الإبراهيمية بدعة علمانية سياسية حديثة العهد اختلقتها إسرائيل ستاراً ومسوّغاً لنزع المِلكية الإسلامية العربية عن كامل تراب فلسطين ولضم الضفة والقدس الشريفة إليها والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية عليهما وذلك عن طريق اعتراف الدول الإسلامية والعربية السنّية بالوضع الراهن القائم حالياً على القسر والقهر وعلى السيادة الإسرائيلية المطلقة عل البلاد بما فيها مقدساتها الإسلامية، بحجة أن إبراهيم عليه السلام إنما هو الأب الروحي للديانتين الذي وهبه الله وذريتَه اليعقوبية في التوراة الحقَ الأبديّ بامتلاك أرض كنعان بكاملها جيلاً بعد جيل.
ولقد تبنّت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب السابقة هذه البدعة لأغراض انتخابية داخلية انتهازية حقيرة وأخرى جيوستراتيجية عدوانية هي إقامة حلفٍ ثلاثــيٍّ عالميٍّ بين الدول الإسلامية والعربية السنّية من جهة، وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، ضد الصين وروسيا وإيران، كما تبنّت الإبراهيميــةُ الإنجيليةُ والصليبيةُ الأميركية التطبيعَ وحثّت عليه نكايـةً بالإسلام وتطلّعاً إلى عودة المسيح عليه السلام، وها هو ترامب يعود ثانية إلى الميدان ويتحفز لإيقاع المزيد من حواضرنا في حبائل التطبيعية الإبراهيمية الزائــفة. وقــد رشّــح لوزارة حربــه أعتى عتــاة الصليبية الإنجيليـة الأميركية بيت هيجسيت (Pete Hegseth) الذي يحمل على صدره وسم الصليب الإفرنجي وعلى ذراعه وسم صيحة الحرب الصليبية: ”هذه مشيئة الله“ (Deus Vult).
وتبنّت حواضرُ عربية أربع الإبراهيمية (وامعتصماه!) لأغراض دنيوية لا تمت للدين بصلة لا من قريبٍ ولا من بعيد، واستترت بها تدليساً، وطبّعت علاقاتها بإسرائيل، فاستبشرت إسرائيلُ التلمودية بذلك واعتبرته من دلائل الرضى الربّاني عليها ومشجعاً على التغوّل في الضم وانتهاك الحقوق العربية والإسلامية في فلسطين، وحافظت الحواضرُ العربية إياها على علاقاتها التطبيعية مع إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر على الرغم من عربدة الأخيرة العسكرية وأهوال ما تقترفه آلاتها الحربية الأميركية جنوباً وشرقاً وشمالاً دون أن يرف جفن لأُولي الأمر في هذه الحواضر أو يرتفع حاجب أو تسقط دمعة.
والمحزن والمبكي معاً أن يغفل أو يتغافل أولو الأمر في هذه الحواضر العربية التطبيعية عن أن لا ذكر في القرآن الكريم لهِبةٍ ربّانيةٍ أبديةٍ لأرضِ فلسطين لذريّةِ إبراهيم اليعقوبية، وأن ما ورد في القرآن عن عهدٍ بين سبحانِه وبين إبراهيم عليه السلام لهو في غير هذا السياق أو الصدد كلياً، وتفصيلُ ذلك كما يلي:
تروي التوراة: «ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملاً فاجعل عهدي بيني وبينك وأُكثرك كثيراً جداً… وتكلم الله معه قائلاً: أما أنا، فها هوذا عهدي معك وتكون أباً لجمهور من الأمم فلا يُدعى اسمُك بعدُ أبرام بل يكون اسمُك إبراهيم… وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديّاً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرضَ غربتِك كلَ أرضِ كنعان ملكاً لهم وأكون إلههم» (التكوين الإصحاح 17: 1-8).
ثم تقول التوراةُ: «قال الله لإبراهيم: وأما أنت، فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختتن منكم كل ذكر فتُختَتَون في لحم غُرْلتكم، فتكون علامة عهدي بيني وبينكم، ابن ثمانية أيام يُختتن منكم كلُ ذكر في أجيالكم. وليدَ البيت والمبتاع بفضّةٍ من كل ابنِ غريبٍ ليس من نسلك يُختتنُ خِتاناً وليد بيتك والمبتاع بفضتِك، فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبديّاً، وأما الذكر الأغلف الذي لا يخُتَتن في لحم غرلته، فتقطّع تلك النفسُ من شعبها أنه قد نكث عهدي» (التكوين: الإصحاح: 9 – 14).
والنسل المعني في هذا السياق هو يعقوب وإسرائيل من بعده، وهكذا تضمّن العهدُ التوراتي صكّاً ربّانياً لتملك بني إسرائيل الحصريّ تملكاً أبديّاً لكامل فلسطين (أرض كنعان) بشرط اختتان إبراهيم وذكورِ قومِه جميعاً، فغدت هذه الهِبة الربّانية المزعومة حجرَ الزاوية العقائدي لمِلكية إسرائيل الحصرية لفلسطين منذئذ ولتبني هذا الصك حرفياً من قبل الإنجيلية الأميركية الصليبية الداعمة دعماً غير مشروط للصهيونية وإسرائيل حديثاً. وحريّ بالذكر في هذا المقام أن الهبة الكنعانية الربّانية إياها حسب التوراة تنحصر حصراً كلّياً في النسل اليعقوبي دون عقب إسماعيل ذلك أن الرب حسب التوراة يقول لإبراهيم: «وأما إسماعيل، فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً اثنتي عشر رئيساً يلد وأجعله أمّة كبيرة، ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك ساره في هذا الوقت في السنة الآتية» (التكوين 21:17).
غير أن رواية القرآن الكريم للعهد الذي عُقد بين سبحانه وبين إبراهيم عليه السلام لتختلف كل الاختلاف روحاً ومضموناً عن الرواية التوراتية لهذا العهد، ذلك أن القرآن يروي أن هذا العهد عُقد قبل انتقال إبراهيم إلى فلسطين، ولا ذكر فيه لا من قريب، ولا من بعيد، لتملك لفلسطين المشروط باختتان إبراهيم وذكور ذريته اليعقوبية من بعده.
بل ما ورد عن عهدٍ بين سبحانه وبين إبراهيم عليه السلام تفصيلُ بعضِه كما يلي، إذ خاطــب إبراهــيمُ ربَــه قائــلاً: «رب اجعلنــي مقيــم الصلاة ومــن ذريتي ربنــا وتقبّل دعــاءِ» (إبراهيم 40) وقال «ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب» (إبراهيم 41) وقال «واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا» (البقرة 128) وقال «رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» (إبراهيم 35) وقال «إني وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين» (الأنعام 79) هذا بعضُ ما قاله إبراهيم عليه السلام مخاطباً ربه، فماذا كان جوابه سبحانه: «ابتلى إبراهيمَ ربّهُ بكلمات فأتمّهن قال إني جاعلك للناس إماماً» (البقرة 124) و «إذ قال له ربّهُ أسلِم قال أسلمت لرب العالمين» (البقرة 131)، ويصف سبحانُه إبراهيم عليه السلام فيقول «إن ابراهيم لحليمٌ أوّاه منيب» (هود 69) و«إبراهيمُ الذي وفّى» (النجم 37) و «إن إبراهيم كان أمّةً قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين» (النحل 120) ويدعو إلى الاهتداء «بملّة إبراهيم» «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيّما ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (الأنعام 171). ويشيد القرآن بإبراهيم وملّتِه فيقول «ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسنٌ واتبع ملّة إبراهيم واتخذ الله إبراهيم خليلاً» (النساء 125)، ثم يوضح سبحانُه «ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً» (آل عمران 67) فأين إبراهيم عليه السلام وعهده وخِلّته مع الله في القرآن من إبراهيم وذريته اليعقوبية صاحبة الحق الأبدي في فلسطين مقابل لحوم قُلفتِه وقُلَفِ ذريته في التوراة؟
ولا يقتصر الخُلفُ في التوراة والقرآن الكريم حول عهد إبراهيم، بل يشمل أيضاً روايتي الكتابين حول ابن إبراهيم البكر إسماعيل، وهو أمرٌ لا يقلّ خطورةٍ لكون إسماعيل في الرواية الإسلامية جدَ العرب الأكبر وجدَ رسولِ الله وأولَ من تعلّم العربية التي أُنزل القرآن بها: «إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون» (الزخرف 3) وغيرها من الآيات.
وتروي التوراةُ (التكوين 9:16 وما يلي) أنه عندما أصرّت سارة على زوجها إبراهيم إقصاء هاجر والدة إسماعيل، كانت هاجر لا تزال حاملةً لإسماعيل، فظهر لهاجر ملاكٌ في الطريق عبر البرّية عند نبع في موقع «شور» (Shur)، وأقنعها الملاكُ بالعودة إلى سيدتها هاجر حيث ولدت إسماعيل الذي نشأ في كنف والده حتى بلغ سن الثالثة عشر عندما اختتنه والدُه، أما شور هذه، فتقع في جنوب فلسطين.
والملفت أن التوراة تضيف أن الملاك الذي أقنــع هاجــر بالعودة إلــى ســارة أنبأهـــا في آن بــأن إسـماعيل سـيكون ”حماراً وحشياً *(Wild Ass) يدُه على كلِ واحدٍ ويدُ كلِ واحدٍ عليه“ (التكوين 12:16) ولا تلبث التوراة في السِفر ذاته إلّا أن تروي عن هاجر وإسماعيل رواية مناقضة كليّاً عما أسلفت للتوّ فحواها أن إبراهيم عقب إذعانه لإصرار سارة على طرد هاجر ”بكّر صباحاً وأخذ خبزاً وقربةَ ماءٍ أعطاهما لهاجر واضعاً على كتفها الولد وصرفها“ وأن هاجــر هامـــت لوحدهـــا على وجههــا دون مصاحبـة إبراهــيم في صحـارى بئـر السـبع (جنوب فلسطين) وأنه عندما نفذ ما تحمله من ماء رفعت صوتَها وبكت فسمع اللهُ صوتَ الغلام ونادى ملاكُ الله هاجرَ من السماء وطمأنَها أنه سيجعل ابنَها أمّةً عظيمة فأبصرت بئر ماء، فنشأ الطفل في برّية سيناء، واختارت أمُه زوجة له من مصر، وسكن إسماعيل بقية حياته المديدة في البريّة وكان ينمو راميَ قوس ما بين سيناء وبلاد الأشوريين (Assyrians) شرقاً (التكوين 14:21 وما يلي).
وتختلف هذه الرواية التوراتية عن طفولة إسماعيل ونشأته كل الاختلاف عن الرواية الإسلامية، ففي الأخيرة يذعن إبراهيم لإصرار سارة على إقصاء الطفل الرضيع إسماعيل بعد أن أمره الله بذلك، ويقطع الصحارى معهما، ويترك هاجر والطفل في مكان مقفر عند جبال مكة في الحجاز، ولم يكن بمكة في حينه أحد، ويقفل راجعاً على الرغم من تشفعات هاجر التي رضيت بمصيرها بعد أن أخبرها إبراهيم بأنه إنما يمتثل لإرادة الله، ويلتفت إبراهيم إلى حيث ترك هاجرَ والطفلَ قبل الابتعاد عنه فيدعو «ربنا إنّي أسكنتُ من ذريّتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عنــد بيتـــِك المحرم ربنا ليقيموا الصلاةَ فاجعل أفئدةً من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (إبراهيم 37).
وينفذ ما في السقاء وما في الجراب، فتعطش هاجر ويتلوّى الطفل من العطش، وتنطلق هاجر نحو جبلين (الصفا والمروة) يفصل وادٍ بينهما، وتسعى بين الجبلين سبع مرات، وإذ بملك يضرب الأرض بجناحه فيتفجر ماءُ زمزم، وتأخذ الطيرُ ترد الماءَ، وترى قبيلة جُرهُم العربية الطير يحوم، فيستدلّون على وجود الماء، وتأذن هاجر لهم بالإقامة بجوارها، ويشبّ إسماعيلُ ويتزوج من القبيلة، ويتعلم العربية منهم، ويزوره أبوه إبراهيم في الحجاز، وتنزل آيات عدة عن إسماعيل في مساعدة أبيه على بناء الكعبة، منها و «إذ يرفع إبراهيمُ القواعد من البيت وإسماعيلُ ربنا تقبّل منا إنك السميع العليم» (البقرة 127) و«عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود» (البقرة 125).
لم يتولَّ رئاسة أميركا شخص أشد احتقاراً وعداوةً وبغضاً للإسلام والمسلمين منذ قيام الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا من ترامب، وجهل ترامب وحلفائه الصليبيين الإنجيليين عن حقيقة موقف المسيحية الأصيلة من إبراهيم لا يقل عن جهلهم عن الإسلام
وهكذا يرتبط تركُ إبراهيم لهاجر وابنِها إسماعيل الرضيع في الحجاز وما تبعه كما سلف بصميم ديننا: من لغةِ قرآننا، إلى هويةِ رسولنا العربية، إلى بناء كعبتنا إلى أصول شعائر الحج إلى البيت الحرام، «إن الصفا والمروة من شعائر الله..» (البقرة 158) فأين هذا كلُه مقارنةً بالرواية التوراتية لعودة هاجر إلى سارة وولادة إسماعيل ونشأته في كنف أبيه النافية لكل ذلك، وأين القاسمُ المشتركُ بعدئذ بين الدينين في موقعِ كلٍ من إبراهيم عليه السلام وابنه البكر فيهما، وأيُ سند يجده أُولو الأمر في الحواضر العربية لتشبثهم المتهالك بالإبراهيمية التطبيعية الزائفة بعدَ ذلك؟ وامعتصماه!!
وأخيراً وليس آخراً، ثمة استدراكات لا بد من التطرق إليها، أولها يمت مباشرة إلى ادعاءت بني إسرائيل بوعد رباني بتملّك أرض كنعان (أي الأرض المقدّسة أي فلسطين) وما ورد في القرآن بشأنها، وثانيها آيات في القرآن نزلت تنمّ عن رضى سبحانه على بني إسرائيل وتفضيلهم على غيرهم من العالمين ومدلول ذلك ومغزاه في سياق كل ما سلف، وثالثهما موقع المسيحية كالطرف الثالث إضافة إلى اليهودية والإسلام في حلف ثلاثي بين الديانات الثلاث عبر الجد المزعوم المشترك إبراهيم الذي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب راعي مشروع الإبراهيمية أصلاً تدشين قيامه باسم المسيحية في ولايته الأولى ومصداقية هذا الحلف وراعيه.
أما ادعاءات بني إسرائيل بوعد رباني بتملك أرض كنعان، فقد نزلت بالفعل آية خاطب سبحانه بني إسرائيل قائلاً: «يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين». (المائدة 25 26) أما «الأرض المقدسة»، فهي حسب جمهور المفسرين التي تمتد من العريش في سيناء إلى الفرات شرقاً، أي إنها تشمل فلسطين التي تسميها التوراة «أرض كنعان» في الوعد الرباني إلى إبراهيم كما سلف، أفلا يدل ذلك على صدق الادعاء التوراتي؟
الجواب هو بالنفي وذلك لأن الآية ذاتها تتبعها آية أخرى مباشرة تنسخ الوعد من حيث أن هذه الآية الثانية تخبرنا برفض بني إسرائيل أمره تعالى بدخول الأرض المقدسة إذ قالوا «يا موسى إن فيها قوماً جبّارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون» (المائدة 22) وقالوا لموسى عصياناً «فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون» (المائدة 24) وقال تعالى لموسى رداً على بني إسرائيل وعقاباً لهم «إنها محرَّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأسَ على القوم الفاسقين» (المائدة 26) وانتهى الأمر عند هذا الحد ولا ذكر في القرآن بأي تمديد للأمر بدخول الأرض المقدسة بعد ذلك.
وثمة آية أخرى في هذا السياق حريّ بنا تأمُلها «وأورثنا القومَ الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغارِبها التي باركنا فيها وتمت كلمةُ ربِك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعونُ وقومُه وما كانوا يعرشون» (الأعراف 137) فقد يقال إن عبارة «مشارق الأرض ومغاربها» تشمل فلسطين والجواب هنا نجده في نص الآية ذاتها من حيث أن هذه الهبة الربّانية مشروطة بصبر بني إسرائيل وهي بالتالي مَلغيّة ومُبطَلة حكماً بغياب الشرط.
ولا بد في مجرى هذا الكلام من ذكر ما ورد في القرآن الكريم من آياتٍ تنوّه ببني إسرائيل وبتفضيلهم على العالمين منها «يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين» (البقرة 47) ومنها «وجعلنا منه أئمّةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون» (السجدة 23 – 24) ومنها «وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب» (غافر 35 – 54) ومنها «ولقد اخترناهم على علم على العالمين» (الدخان 32) «ورزقناهــم مـــن الطيّبـــات وفضّلناهـــم على العالمين» (الجاثية 76)، فقد يُتساءل أليس لكل هذه الآيات مدلول ومغزى فيما نحن بصدده؟
والجواب أن هذه الآيات التفضيلية مرهونة جميعاً نصاً بانصياع بني إسرائيل لأمره تعالى وبصبرهم وإيمانهم بآياته سبحانه، والواقع أنه قد نزل من الآيات العديد التي تحكي عن فقدان هذه الشروط وعن بغيهم ونقضهم لعهودهم ومعاقبته تعالى لهم على ذلك منها «وضربت عليهم الذلّةُ والمسكنةُ وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله…» (البقرة 61) ومنها «ثم قست قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدَّ قسوةً…» (البقرة 74) ومنها «قل يا أهلَ الكتاب لِمَ تكفرون بآياتِ الله واللهُ شهيدٌ على ما تعملون…» (آل عمران 98) ومنها «فبما نقضهم ميثاقَهم وكفرَهم بآياتِ الله وقتلِهم الأنبياء…» (النساء 155) «وبكفرهم وقولِهم على مريم بهتاناً عظيماً» (النساء 156) ومنها «ولتجدنَّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ … ولتجدَن أقربهم مودةً الذين قالوا نحن نصارى» (المائدة 82) ومنها «وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان…» (المائدة 62) ومنها «مثل الذين حُمِّلوا التوراة ولم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً» (الجمعة 5).
أما أن المسيحية هي الطرف الثالث في حلف إبراهيمي ثلاثي روحي مسكوني يجمع بين الديانات الثلاث وأن «قابلته» إن هو إلّا دونالد ترامب إياه، فهذه حقاً مهزلة المهازل، إذ إن البعد الروحي أبعد الأبعاد عن ذهنيّة صاحب الصفقات العقارية وملاعب الغولف وناطحات السحاب، ومُخرِجَا الإبراهيمية الثلاثية الأصيلين بنيامين نتنياهو وحليفُه الخليجي إيّاه أدركا ذلك مبكّراً إدراك اليقين وعرفا السبيل الناجز إلى دوافع القابع في كهفه الأبيض ومآربه.
والواقع أن فقدان القاسم المشترك حول إبراهيم بين اليهودية والإسلام الذي أسهبنا في شرحه أعلاه يشمل المسيحية أيضاً ذاتها التي تكلم ترامب بصفاقةٍ باسمها، ولا نقول «بصفاقةٍ» بخفةٍ ذلك أنه لم يتولَّ رئاسة الولايات المتحدة شخص أشد احتقاراً وعداوةً وبغضاً للإسلام والمسلمين منذ قيام الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا من ترامب والشواهد على ذلك يعيي الحصاة عديدُها وقد أوردنا بعضاً منها في ما سلف، ويقيناً لا دافع لترامب لرعايته للإبراهيمية أكثر بعداً وأقصى من حرصه على الوئام بين المسيحية والإسلام.
هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فجهل ترامب وحلفائه الصليبيين الإنجيليين عن حقيقة موقف المسيحية الأصيلة من إبراهيم لا يقل عن جهلهم عن الإسلام، حيث أن بولس الرسول أوضح العقيدة المسيحية الصميمية (وهو سيد رُسُلِها بعد عيسى عليه السلام) في أمر إيمان إبراهيم وتطويب سبحانه لإبراهيم وموقع إبراهيم في العالمين وزمن التطويب وعلاقة ذلك باختتان إبراهيم وموقف المسيحية عموماً من موضوع العلاقة بين الإيمان والاختتان ككل. وتفصيل ذلك في ما ورد في العهد الجديد على لسان بولس الرسول حيث قال: «طوبى للذين غُفرت آثامُهم وسُترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي له يحسِبُ له الربُّ خطيّةً، أفهذا التطويب هو على الخِتان فقط أم على الغُرْله أيضاً؟ [أي غير المختتن] لأننا نقول إِنه حُسِب لإبراهيم الإيمانُ بِرّاً فكيف حُسب؟ أوَ هو في الخِتان أم في الغُرْله؟ ليس في الخِتان بل في الغُرْله وأخذ علامة الخِتان خَتماً لبِرّ الإيمان الذي كان في الغُرْله ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهُم في الغُرْله كي يُحسب لهم أيضاً البرُّ وأباً للخِتان للذين ليسوا من الختانِ فقط بل أيضاً يسلكون في خطُواتِ أبينا إبراهيم الذي كان وهو الغُرْله فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسلِه أن يكون وارثاً للعالم بل ببِرّ الإيمان لأنه إذا كان الذين من الناموس هُمْ ورثةً فقد تعطّل الإيمان وبطل الوعد» (الإصحاح 8:4 وما يلي). ويتضح مما سلف أنه لمّا حظي إبراهيم بتطويب ربه كان أغلفَ وأن هذا التطويب ووعد ربه له حصلا قبل اختتانه وأن التطويب والوعد كانا بسبب إيمان ابراهيم.
ويتابع بولس الرسول كلامه فيقول إن المسيحية ترفض رفضاً قاطعاً منزلة الختان الجسدية التي هي ذروة العهد بين سبحانه واليهودية باعتقاد الأخيرة ورمزها وختامها والشاهد على اختياره سبحانه لبني إسرائيل بالذات وتخصيصهم بالعهد الرباني حصراً بهم عبر إبراهيم دون غيرهم من شعوب الأرض طُرّاً، إذ يؤكد بولس الرسول أن إبراهيم عليه السلام اعتُبر مؤمناً قبل اختتانه وأن «اليهوديّ في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الذي في الظاهر في اللّحم ختاناً، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحُه ليس من الناس بل من الله»، رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية (2: 28 – 29). وبالتالي فلا قاعدة ثلاثية حكماً بين الديانات الثلاث حول إبراهيم.
والأدهى من كل ما سبق أن لا قاسمَ مشترِكاً بين اليهودية والإسلام حول سيدنا عيسى عليه السلام، ناهيك بوجوده بين اليهودية والمسيحية، فعيسى في القرآن الكريم «كلمة الله»، «إذ قالت الملائكة يا مريمَ إن الله يُبشّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح ابن مريم» (آل عمران: 45-46) «وروحُه»: «وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القُدُس» (البقرة 87)، وولدته أمه البتول «إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين» (آل عمران: 42-43)، ونزلت في ذلك سورة مريم وهي من أرقّ سور القرآن وأعذبها رقةً وحناناً، فأين ذلك كله من نظرة التلمود إلى عيسى عليه السلام وإلى أمه تلك النظرة التي تقطر بالحقد والازدراء والتقزّز؟ وإن المرء ليخجل أن يذكر أين يضع التلمودُ المسيحَ اليوم وأي صفات يكيلها على البتول وعلى زوجها، ولعل طالب المزيد من المعرفة يتابع الأمر بنفسه في التلمود البابلي (b. Gtt 57 a).
وبعد، فقد لا يقيم القادة الإبراهيميون في الحواضر التطبيعية وزناً لأي من الشروحات والاعتبارات والمحذورات التي أسلفنا، حيث أن السيطرة على بوادي المغرب الأطلسيّة، وتقتيل الأقربين لهثاً وراء ذهب المناجم، والسعي المتهالك إلى إرضاء نزعات العظمة والنقص في آن، والتصميم على طمس إرادة أكثرية الرعايا العددية لها ما لها من الأولوية العليا التي لا تعلو أولوية عليها لدى أُولي الأمر تباعاً في الحواضر الأربع إياهم، ولكنها محذورات واعتبارات وشروحات لها يقيناً ما لها من مكانة وحصانة لا تعلو مكانة وحصانة عليها لدى من في عنقه مسرى خاتم الأنبياء ومعراجه تجاه جمهور هذه الأمة التي يربو عديدها البليون ونصف البليون من التابعين والمؤمنين في مشارق هذا الكون ومغاربه.
وليد الخالدي – الأخبار
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.