محمد علي | خاص الناشر
أكتب في مدح شباب لا يسألون مدحًا، وأنا العارف بقصور كلّ تعبير عن أداء حقّهم على كلّ حال. أكتب عن شباب اتّخذوا تقوى الله تجارةً فأتتهم الأرباح من غير بضاعة. أكتب عن شباب تحدّتهم حكومات الأرض ونافستهم سياساتها، وخذلتهم الشُّعوب طُرًّا بعد أن بات العجز من عاداتها. أكتب عن شباب خُلقوا من فاضل طينةٍ ميّزتهم عن أهل الغفلة بأن وقفوا من بين القاعدين ونطقوا من بين الصّامتين، وهو شرف ستحمله أجيالنا إلى أبد الآبدين.
هم شباب يفهمون لغة التّاريخ، يعرفون سُنَنه وديدنه، وكيفيّة تعامله مع من يرى أشلاء الأطفال تحترق وتتفجّر على أيدي الأشرار ثمّ لا يحرّك ساكنًا، ويعلمون، عن خبرة وتجربة، أنّ الدُّنيا مفعول به وليست بفاعل كي يُنتظر منها شيء لم تُنجَز مقدِّماته. هم شباب يعتبرون من قصص الإباء التي توارثوها كابرًا عن كابر، ولذا أدركوا أنّ الاستثناء من دنوّ الدُّنيا ومظالمها دليل شقاء وانقياد للباطل، وأنّ من يأمن طغيان المتغطرسين فالعِلَّة فيه، لا في من سواه.
لا تجد هؤلاء الشّباب يعبأون بوساوس من أعار فطرته للوحش فانعدم وامَّحى، أو حلّ في صدى الانهزام حيث لبث التُّعساء. لم تخدعهم نصائح الجبناء عند ازدحامها على مسامعهم، ولا قراءات مدّعي الوعي والعقلانيّة، ولا ذرائع المتلوّنين ومن لا يهمّهم أن تؤدّى الأمانات إلى أهلها. لم يعتذروا عن عدم الحضور يومًا رغم أنّ المُنبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، بل حضروا أينما وجب الحضور، حتّى صار حبُّهم ودعمهم هو الامتحان، وما دون ذلك محض سقوط وإن اجتمعت فيه الأنماط الرّماديّة طُرًّا.
هؤلاء الشّباب هم ثمرة سيرة جبل عامل والبقاع، من آثار أنبيائهما إلى تراث علمائهما وتضحيات السّابقين من أبنائهما. هم بقيّة الشّهيد الأوّل والمُحقّق الكركيّ والشّهيد الثّاني والشيخ البهائيّ والحُرّ العامليّ. هم أبناء مسيرة حُفظت بالدّم وبقيّة من ورد فيهم أنّهم كسُكّان السّفينة في حال الغيبة..
هم شباب حزب قادته لم يعرفوا الأمان البتَّة وكفى بذلك برهانًا على صدق التّجربة وخلوصها، وعندما أصابهم ما أصابهم لم يمنعهم فقدان الأصابع من تسبيحات كانت ذات يوم سرّ الالتحاق، ولا فقدان البصر من معرفة الطّريق أو التّمييز بين النّجاة والبقاء على قيد الحياة. كيف وهم أهله وحُرّاسه، وأجدادهم قُتلوا أينما وُجدوا وقُطِّعت أيديهم وأرجلهم على الظِّنَّة، ولاقوا من التّشريد والتّنكيل ما لم تلقه فرقة ولا ملّة؟!
ثمّ لم يكسر التَّرَحُ عزيمتهم عند وصول الأخبار وشماتة الفُجّار، أن قد استُشهد سيّد مجاهدي العصر وغيره من أساطين المسيرة وفرسانها، بل واصلوا عملهم وهم في غاية الثّقة والاطمئنان. ذلك أنّ اللّقاء في الأوبة آنس وأبقى، وأيّ فوز أبين من تحقُّق أماني من يرى في القمصان المخضّبة في الفلوات دليلًا على حبّ الحياة. نعم، لا عجب أن يخطئ السُّذَّج في الحسابات، فيظنُّوا أنّهم بذلك قطعوا وشيجة حزب تربطه قضيّة وعقيدة ليست من ابتكارات البشر وتصاميم الرّجال؛ في حين أنّ أهل الفنّ من زعماء المقاومة لو نطقوا لصرّحوا بأنّ اعتماد المادِّيَّات والأسباب الحِسِّيَّة المعهودة إن هو إلّا مجاراة للسُّنَن الكونيّة أو تسلية لمن ظنّ في ما يُرى غاية الأمر وجوهره.. غير أنّ الواقع شيء آخر.
نعم، تحكي مسيّرة استهدفت غرفة نوم بعض البأس المعقول، فكانت كصخرة تدافعتها رياحُ الحقّ وضربت بها وجه الاستكبار فتفجّر منه كلّ عيب وانكشف وهنه! بلى، فرق شاسع بين هؤلاء الشّباب وبعض المستعجلين ممّن يحلّل من منطلق “عنزة ولو طارت”. ومع كلّ بيان يصدر عن الإعلام الحربيّ تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، يستبشر مجتمع يريد الاستقلال بينما يضطرب المصرّون على بيع ما يُقاس به المرء. كأنّ الصّواريخ تنطق قائلة: لن تجدوا التعب هنا ولا الهوان، فلتقصدوا “ما يشبهكم” عند من يصرف أموال شبابه على طائرات يودُّ لو تكفيه القتال..
أمّا هؤلاء الشّباب، فقد وتدوا البلاد وتدًا بينما المزايد في الوطنيّة ما برح يبحث عن غطاء لتبعيّته وعذر لانعدام إنسانيّته، تجده عاكفًا على اعتماد الطُّرُق الرّسميّة، منصرفًا إلى كلّ مبادرة تدعو إلى إيكال الأمن والأعراض إلى نُظُمٍ بان عجزها وفشلها، بل تورُّطها وتواطؤها، منذ عقود؛ وحديثًا لدى مَن أيقظته المجازر في العام الأخير. يحدوه الوحش كما يريد ويكافئه على إبراز الضّغائن والأحقاد.
ومع كلّ ذلك فالشّباب بخير. ما زالوا يدهشون العالم بصمودهم وإبداعهم، ويكتبون حكايات المستقبل كلّما اشتدت المواجهة. يطاردون جنود الكيان اللّقيط اليوم من أنفاق الأرض وأعماقها، وغدًا من قمم الجبال وروابيها؛ يسقون الأرض من سواعدهم ماء الحياة الأبديّة والسّيادة الحقيقيّة، ويرفعون القناع عن زيف دعايات الامبراطوريّة. ولأنّهم – كما ظهر من موقفهم الفريد من الإبادة الجماعيّة – أصدقنا وأزكانا ووجه العدل في البشريّة، بهم نفخر، وبهم نظفر، وبهم نهمس في أُذُن التّاريخ سرّ النّصر والحُرِّيَّة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.