أيام تفصلنا عن الذكرى السنوية الأولى لكارثة انفجار مرفأ بيروت، وما زال التحقيق الفنّي مخفيًا في أدراج التسييس والبحث عن السيناريو الأفضل لترجمة الاتهام السياسي الذي كان قد اندلع مباشرة بعد الانفجار، حتى قبل رفع الركام وإحصاء الضحايا ومباشرة البحث عن المفقودين. نقتربُ من إتمام عام من الاستهداف السياسي الجائر الذي بلغ حدّ الشيطنة والتشويه بذريعة العريضة النيابية لمنع رفع الحصانة، والتي يدافع فيها المجلس النيابي عن حقه وواجبه باحترام مبدأ فصل السلطات. فالعريضة تقضي برفع الحصانة لمحاكمة داخل المجلس، لكن أحدًا ممّن استفاضوا بالأمس في الاتهام التضليلي لم يناقش في مضمون العريضة أو يذكره حتى.
ببساطة، يصرّ البعض على الانطلاق من الاتهام السياسي إلى التحقيق لتثبيته ولاختلاق “أدلّة” عليه، بدل الانطلاق من التحقيق في الحدث نفسه وكشف المرتكبين الحقيقيين. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على مصلحة ما بإخفاء المرتكبين، وتحميل مسؤولية الكارثة الهائلة إلى طرف تشير جميع الأدلة والتحليلات إلى براءته منها. فالإصرار على إخفاء نتائج التحقيق الفني دليل يدين مَن يخفيه، ولو تضمّنت هذه النتائج إشارة واحدة أو حتى دليلًا ظرفيًا واحدًا يؤكد الاتهام السياسي المتداول منذ لحظة الانفجار لكانت نسخ هذه النتائج طُبعت ووُزعت في الطرقات.
الاتهام السياسي هو توجيه اللوم إلى طرف معيّن لأسباب ودوافع سياسية لا تمت إلى الحقيقة بصلة. وقد عمد مرتكبوه إلى المجاهرة به بشكل مثير للريبة منذ ضربوا بكل قواعد علم الجريمة والعلوم القانونية عرض الحائط محوّلين القاعدة الشهيرة التي تقول إنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته، إلى “حزب الله مدان حتى تثبت براءته”! بهذه الوقاحة التي تكشف احتمال تورّط قائليها بالتسبب بالانفجار إن لم نقل بافتعاله. وبالأمس أكمل هؤلاء ما بدأوه عبر افتعال ضجة تضليلية حول العريضة النيابية دون أن يوضحوا سبب إصرارهم على رفع الحصانة فقط عن النواب وإبقائها على القضاة الذين تشملهم منطقيًا المسؤولية عن انفجار المرفأ!
ثمّة سيناريوهات كثيرة متداولة حول شحنة النيترات التي حُفظت في العنبر ١٢ من مرفأ بيروت وانفجرت في الرابع من أب ٢٠٢٠، ومنها أنّ وجهتها كانت عصابات التكفير والإرهاب، وأن ما حُفظ وانفجر كان القليل الباقي منها بعدما تعذّر إيصاله إلى وجهته. هذه الفرضية من ضمن فرضيات كثيرة مرتبطة بتاريخ وصول الباخرة وبتاريخ تفريغها وتاريخ حفظ محتوياتها وتواريخ عديدة سبقت الحكومة الحالية المستقيلة، وبالطبع تقع المسؤولية هنا على كلّ من احتاج الأمر إلى موافقته وتوقيعه.
بموضوعية شديدة وبدون الدخول في الأسماء، ما الذي يدفع القضاء اليوم إلى الاستنساب في طلب رفع الحصانات وتحييد من تضعهم الفرضيات المنطقية في موقع المسؤولية عن التحقيق لصالح تثبيت الاتهام السياسي أو تحويل القضية إلى نموذج يضاف إلى نماذج الستة وستة مكرّر الملازمة للصيغة اللبنانية؟ وما هو الهدف من إخفاء نتائج التحقيق الفنّي الذي قد يحمل الكثير من المؤشرات التي تكشف حقيقة ما جرى في ٤ آب وقبل ٤ آب، وتحويل الأنظار عنه إلى زاوية بعيدة تحت عنوان “رفع الحصانات” وعبر المزايدة بحقّ أهالي شهداء انفجار المرفأ بالكشف عمّن قتل أبناءهم ومحاكمته فيما يمنع المزايدون المسار القضائي الصحيح للقضية عبر تسييسها حتى في أروقة القضاء وأدراج مكاتب القضاة. وإلا ما الذي يبرر الاستدعاءات والادعاءات الاستنسابية؟ وما الخلفية التي تمّ منها اختيار اسماء المطلوبين للتحقيق والمحاكمة؟ وما هو المعيار الذي على أساسه تم تحييد أسماء أخرى هي الأقرب إلى تحمل المسؤولية في كارثة بحجم انفجار المرفأ؟ كل هذه الأسئلة نتاج طبيعي لمؤشرات التسييس الواضحة في الملف ولم يجب عنها القاضي بيطار لسبب ما.
وبعيدًا عن أروقة القضاء، الحملة المشبوهة التي كثفت من حركتها اعلاميًا وافتراضيًا في الأيام الأخيرة الماضية أليست هي الأخرى موضع شبهة، على الأقل حول من يوظفها ومن يعطيها الأمر بتكثيف كيل الإتهامات السياسية، وحول هدفها من تحويل القضية من قضية وطنية تعني الجميع إلى شعار سياسي يستهدف حزب الله، من دون أي دليل ومن دون أي صلة واقعية بين حزب الله وبين مرفأ بيروت سوى تلك التي اختلقتها لوفيغارو الفرنسية تماما كما تولت ديرشبيغل الألمانية تركيب الفيلم الذي يناسب الاتهام السياسي أيام المحكمة الدولية. تهدف هذه الحملات إلى تضليل الناس وقلب الحقائق. ألم يتساءل المتأثرون بها عن أهدافها الحقيقية وعن استبسالها في التعتيم على احتمال ورد في فرضيات عديدة تتحدث عن استخدام جبهة النصرة واخواتها لمادة النيترات؟ أليست خطيئة بحق شهداء المرفأ أن لا يسأل المرء نفسه في خضم التضامن عمّا إذا كان يتضامن من أجل كشف القاتل أو يُستخدم كمتضامن من أحل إخفاء القاتل واتهام البريء؟
أسئلة كثيرة وجْهتُها القضاء حول القضية، ولا جواب.
أسئلة كثيرة وجهتُها القائمون على جوقة الاتهام السياسي والمتضامنين معهم، ولا جواب.
أسئلة إلى أهالي الشهداء الذين اصطف بعضهم خلف الاتهام السياسي المضلِّل رغم احترامنا الشديد لوجعهم الذي هو وجعنا، هل هان عليهم دم أحبتهم إلى حد القبول بهدره في ساحة التوظيف السياسي وحماية القاتل؟ أيضًا لا جواب.
كلّ القضايا في لبنان معرّضة للغرق في الخطوط الحمراء الطائفية وفي الاستنسابية القضائية وفي التوظيف السياسي وفي الاستثمار بالدم وفي توجيه الاتهام إلى البريء لحماية المرتكب، هذا إذا لم نذهب أبعد ونقول إن بعض الجرائم قد تكون ارتكبت ليتم توظيفها، وإن بعض الكوارث قد تكون افتعلت ليتم استثمارها لصالح الإرهاب وضد المقاومة. إلّا أن السكوت عن الظلم الممنهج اشتراك فيه، والتعاطي بخضوع مع الاستنسابية الاتهامية يعزّزها، وشدّة الحرص على الآخرين قد توهمهم في لحظة ما بأنّهم أقوياء بما ارتكبوا وبما كذبوا.
بالأمس طُرح على منصات التواصل سؤال يستحق الوقوف عنده: هل نحن أمام محاولة تكرار لقصة الضباط الأربعة؟ كلّ المؤشرات على إعادة ارتكاب قصة الاتهام المختلق والمسيّس واضحة، وليس في القضاء من يجيب!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.