لا بد لأي محلل سياسي، ينتهج اسلوب البحث العلمي الموضوعي والمستند الى المنطق، ان يعود قليلًا بالذاكرة الى الوراء ، كي يتمكن من تقديم تحليل موضوعي وتقدير موقف دقيق للمناورات البحريه الواسعة النطاق، التي تجريها القوات البحرية لدول حلف شمال الاطلسي، الى جانب قوات بحرية اسرائيلية ومن اربع دول عربية هي مصر والمغرب والامارات وتونس، منذ 2021/6/28 وتُختتم اليوم 2021/7/10، خاصة وأن المهمة التي تتدرب هذه القوات البحرية على تنفيذها، تتمثل أساساً في:
١) عمليات انزال بحريهة على ارض العدو.
٢) تنفيذ عمليات برية على ارض العدو . وهذا يعني في العلم العسكري القيام بعمليات الانزال البحري لإقامة رؤوس جسور للقوات المدرعة والمشاة الميكانيكية، التي سيتم إبرارها من سفن الانزال، بعد نجاح تثبيت رؤوس الجسور على ارض العدو ( وهو في هذه الحالة روسيا بلا ادنى شك لانها البلد الوحيد في حوض البحر الاسود التي تتعامل معها الولايات المتحدة وحلف الاطلسي كبلد عدو).
٣) عمليات بحرية تنفذها وحدات من الضفادع البشرية، التابعة لدول حلف الاطلسي (وهي بالتأكيد عمليات زراعة ألغام بحرية في طرق تحركات الاساطيل الروسية المدنية والحربية في البحر الاسود، اضافة الى القيام بعمليات تخريب لمنشآت عسكرية بحرية روسيهة في موانئ البحر الاسود.
٤) التدرب على حرب الغواصات.
٥) التدرب على عمليات الدفاع الجوي وعمليات القوات الخاصة. (وهذا يعني، من الناحية العسكرية، انزال قوات خاصة تابعة لحلف الاطلسي خلف خطوط العدو وتقديم الغطاء الجوي لها لتمكينها من تنفيذ العمليات المكلفة بها دون ان تتعرض لنيران المقاتلات الروسية في ارض المعركة، بالاضافة الى تأمين الغطاء الجوي لعمليات الانزال البحري وللسفن الحربية الاطلسية المشاركة في العمليات ايضاً، وذلك حسبما اعلن على الصفحة الرسمية لسلاح البحرية الاميركي، قبيل بدء المناورات.
اذًا، فإن الهدف من هذه المناورات هو التدرب، وعلى مقربة شديدة من الاهداف الروسية، على عمليات عسكرية اطلسية تُشنُّ على اراضي جمهورية روسيا الاتحادية، بحراً وجواً.
علماً أن خطة المناورات، التي تجري حالياً في البحر الاسود، هي نسخة طبق الاصل عن خطة عسكرية بريطانية فرنسية، جرى البدء بالتخطيط لها في شهر كانون الأول ١٩٣٩ وأنجزت في شهر كانون الثاني ١٩٤٠، واطلق عليها اسم عملية الرمح – Operation Pike – وتمثلت اهداف الخطة آنذاك في:
أ) قصف كافة آبار النفط السوفييتية، في منطقة القوقاز الشمالي، خاصة في باكو وغروزني، وتدميرها تدميرًا كاملًا .
ب) اسندت قيادة العمليه لجنرال سلاح الجو البريطاني سيدني كوتون Sydney Cotton ، والذي بدأ باعداد أولى الصور الجوية لمناطق الحقول المستهدفة في شهري آذار ونيسان ١٩٤٠.
ج) بعد استكمال عمليات الاستطلاع الاخيرة للاهداف بدأت قيادة العملية، تحت اشراف وزارتي الحرب البريطانية والفرنسية، بنقل ثلاثة اسراب من الطائرات المقاتلةه البريطانية الى الموصل، في العراق، وستة اسراب جوية فرنسية الى سورية. وقد ضمت هذه الاسراب طائرات من طراز فامرمان / ف ٢٢1، طائرات مارتن ميري لاند Maryland Farman F – 221 ، Martin ، وطائرات فيكرز / Fickers / ، بحيث اصبح العدد الاجمالي لطائرات القوة الجوية البريطانية الفرنسية، المكلفة بتدمير آبار النفط السوفييتة، هو ١١٧ طائرة.
ج) وفي الوقت نفسه تابعت القيادة العامة للعملية استكمال بعض التفاصيل الميدانية على ان يبدأ تنفيذ عمليات القصف الجوي لموانئ كل من باكو / باتومي / باتو / على البحر الاسود، اضافة الى مدينة غروزني في جمهورية الشيشان، في نهاية شهر حزيران ١٩٤٠.
د ) لكن قيام الجيش الالماني الهتلري بشن هجومه على فرنسا، بتاريخ ٢٠ /٥ /١٩٤٠ واحتلالها بسرعة قياسية، وعثور فرقة الدبابات التاسعة الالمانية، بتاريخ 1940/6/16 ، على خطة العملية البريطانية الفرنسية، في هيئة اركان الجيش الفرنسي بناحية La Charité – sur Loire ، قد كشف العملية.
هـ) ومن الجدير بالذكر ان الماريشال هيرمان غويرينغ Hermann Göring ، وهو وزير الطيران الحربي الالماني الهتلري ، قد أكد في محكمة نورينبيرغ، التي حوكم فيها من بقي على قيد الحياة من القادة النازيين، ان قيادة الاستطلاع الاستراتيجي الالمانية كانت قد سجلت تحشيدًا جويًا، بريطانيًا فرنسيًا، استعدادًا لتنفيذ عملية السهم.
كان الهدف المعلن لهذه العملية في خطط هيئة الاركان، من قبل لندن وباريس، هو حرمان المانيا النازية من الموارد النفطية السوفييتية، خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي السوفييتية الالمانية، في صيف ١٩٣٩، حسب الوثائق السرية المتعلقة بهذا الموضوع والتي رفعت عنها السرية قبل فترة وجيزة.
لكن الاهداف الحقيقية من وراء ذلك كانت مختلفةً عما تضمنته وثائق هيئة الاركان الفرنسية والبريطانية، اذ انهما كانتا تهدفان الى البدء بتدمير موارد النفط السوفييتية تمهيداً للبدء بعمليات هجومية بحرية وجوية ضد اراضي الاتحاد السوفييتي، تحت حجة التعاون السوفييتي الالماني، اي ابتزاز الاتحاد السوفييتي تحت تهديد العدوان العسكري بهدف إلغاء اتفاقياته مع المانيا.
وفي هذا الاطار قام السفير البريطاني في موسكو ريتشارد ستافورد كريبس Richard Stafford Cripps ، في شهر ١٠ /١٩٤٠، بتقديم عرض لوزير الخارجية السوفييتي، مولوتوف، يسمى باللاتينية: Quid pro quo اي هذا مقابل ذاك، ينص على تخلي بريطانيا عن عمليات تدمير حقول النفط السوفييتية مقابل ان يتخذ الاتحاد السوفييتي موقفاً محايداً في الحرب الالمانية البريطانية.
وهذه هي السياسة نفسها التي تمارسها الولايات المتحدة الاميركية مستخدمة حلف الاطلسي ومجموعة من الدول العميلة لها، في ابتزاز القيادة الروسية الان لتقديم تنازلات سياسية، سواء على الصعيد الاستراتيجي الدولي او في مواضيع اقليمية تهم الامن القومي الروسي، كموضوع العلاقة مع ايران وسورية وغيره من المواضيع والملفات.
الا ان هدف واشنطن الاستراتيجي الاول، من وراء مواصلة الضغط العسكري على روسيا، من خلال التحركات العسكرية الاستفزازية، لواشنطن وحلف الاطلسي على حدود روسيا الشمالية الغربية وفي البحر الاسود، انما هو محاولة لوقف التعاون الصيني الروسي، على الصعيد الاستراتيجي الدولي، خاصة في مجال الدفاع المشترك، او ما تسميه واشنطن منع تشكل وتعمق الحلف العسكري الروسي الصيني المتنامي، الذي ” يهدد ” الامن القومي الاميركي. وهو ما يؤكد ان سياسة الدول الاستعمارية الغربية هي نفس السياسة العدوانية التوسعية، القائمة على الابتزاز وفرض الهيمنة، وتهديد السلم الدولي. ولكن موازين القوى الدولية الحاليّة ومنطق حركية (ديناميكية) العلاقات الدولية الحاليّة، بما في ذلك وجود محور مقاومة معادٍ للسياسة التوسعية الاميركية، ومستنداً الى دعم سياسي ودبلوماسي، وعسكري في بعض المواقع، من كل من جمهورية الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، نقول ان كل ذلك سيفشل النسخة الجديدة من السياسة الاستعمارية الغربية، التي تجمع بين التهديد العسكري والعدوان الاقتصادي المباشر، عبر فرض العقوبات الاقتصادية والمالية على العديد من الدول وعلى رأسها الصين وروسيا وكوريا الشمالية وايران وسورية وفنزويلا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.