الحزن حين الفاجعة ليس اعتراضًا على الأقدار، ولا هو تنكّر للرضا والتسليم اللذين نستقبل بهما أخبار الموت مهما كانت قاسية. لكنّ ذلك لا يمنع من أن تنطلق من أعماق الروح صرخات ألم لا يستكين أمام هول المشهد: حادث سير على طريق السعديات يودي بحياة فاطمة قبيسي وبناتها الأربع زهراء وآية وليا وتيا عماد حوماني. وقع الحادث خلال بحث الأم عن مادة البنزين بين المحطات عسى توفّق بتأمين ما يكفي منها لاستقبال زوجها ووالد بناتها في مطار بيروت. الزوج العائد مريضًا بالملاريا وبحال تستوجب العلاج في لبنان، تلقى خبر الفاجعة في غربته وبدل أن ينتظر لقاء عائلته الصغيرة والتعافي محاطًا بزوجته وبناته، سيكون عليه أن يودعهن إلى مثواهن الأخير.
تتعدّد الأسباب والموت واحد. إلّا أن فاجعة بهذا الحجم، إن سلّمنا جدلًا أن عدد الضحايا يشكل معيارًا في هولها، تستدعي ألف سؤال حول الأسباب التي أدّت إلى الحادث. روايات مختلفة نقلت المشهد، لكن الرواية المثبتة والتي لا يمكن تجاهل حقيقتها، هي أنّ رحلة البحث الاضطراري عن البنزين كانت واحدة من الأسباب التي فجعت الجنوب وكلّ لبنان بامرأة وبناتها، ووضعتنا في حضرة أب يواجه هذه المأساة دون أن نستطيع إلى مواساته سبيلًا. بل وضعتنا جميعًا أمام حقيقة مفادها أنّ في ظلّ الأزمة المتفاقمة، وبالاعتماد على منظومة الاحتكار والانبطاح للمحاصِر، جميعنا ضحايا مؤجلون لمصائب قد تختلف أشكالها ويبقى جوهرها واحداً.
عماد حويلي، ربّ الأسرة القتيلة، مغترب في أفريقيا يجهز نفسه للعودة إلى لبنان، وتنتظره أسرته بلهفة لا سيّما وأن وضعه الصحيّ ليس جيّدًا وهو بحاجة إلى الاستشفاء. لنا أن نتخيّل مقدار الشوق في قلوب الأم فاطمة وبناتها زهراء وآية وليا وتيا وهنّ يستعددن لاستقبال عماد العائد من غربته متوعكًا.. لكنّ الحصول على “البنزين المقطوع” كان شرطًا أساسيًا لاكتمال الرحلة التي أردن فيها أن يذهبن إلى المطار والتنقل في بيروت بحسب حاجة الوالد وثم العودة الى البيت. الشرط الذي بات من الصعب تحقيقه في ظل وضع الناس بين مطرقة المحتكرين وسندان “الدولة” التي ترفض عروض شراء البنزين بالليرة اللبنانية لحلّ الأزمة بشكل نهائي..
عند خط السعديات، وفي أثناء البحث المضني، حدث ما لم تتوقعه فاطمة وبناتها، بالإضافة الى عدد من الجرحى. وحدث ما لم يمرّ ببال العائد إلى بلده، إلى بيته وعياله.. ثوانٍ قليلة كانت كافية لتصير العائلة خبرًا مفجعًا وصورة.. ثوان قليلة كانت كفيلة بتحويل ليل الجنوب إلى زمن يحوي جثامين خمسة، وجرحى بحال الخطر، وأباً في يوم عيده فقد فلذات الكبد وأمهنّ.
سرق الخبر النوم من كلّ عين تلقته. أسرة كانت الغربة تمنع اجتماع أفرادها إلا في العطل التي يتمكن فيها الأب من زيارة لبنان، اليوم يفرّق الموت بينها وبينه. قضت الأم وورداتها ليلتهنّ في برادات الموتى بعد أن توزعت الجثامين بين المستشفيات بانتظار تجهيز مكان دافىء في تراب الضيعة.. لا يمكن تصور حال الأب الآن وهو يحاول احتواء الصدمة وتصديق ما حدث، وربما يناديهن بأسمائهن عسى تجيب إحداهن بأن الحادث كابوس انقضى، وأنّه في الصباح ستتحلّق العائلة حوله وتتسابق البنات وأمهن على إخباره بحكاياتهنّ.. أصلًا كيف يمكن لقلب أن يستوعب هذا الألم ويقتنع بأنّه حقيقيّ، كدمهنّ في السيارة التي تحوّلت إلى مركبة أوصلتهن إلى الموت معًا، وتركت الأب مضرّجًا بالفقد وبالذهول؟
قد لا نمتلك ما نقوله في تعزية الأب عماد حويلي، وقد لا نجد في كلّ كلمات المواساة حرفًا واحدًا يخفّف عنه ثقل الخبر ونزف القلب في حضرة الفقد، وقد يكون البحث في الأسباب المباشرة التي أدت للحادث ليس من اختصاصنا، إلّا أنه لا يمكن أن نسكت عن الأسباب غير المباشرة التي تحوّل أيامنا إلى سباق متواصل مع السلامة والعودة بخير قدر الإمكان إلى بيوتنا.. من ظروف الطرقات والسير، المشكلة المزمنة، إلى أزمة البنزين وكلّ ما رافقها من مصائب متفرّقة..
البقاء لله، والصبر والسلوان لآل حويلي وآل قبيسي وكلّ أهل الجنوب بل كلّ قلب حلّ عليه هذا الخبر اللئيم وأغرقه دمعًا وأسفًا.. فاطمة مع زهراء وآية وتيا وليا بين أيدي الرحمن الرحيم، هناك حيث لا وجع يطالهنّ ولا جراح..
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اللهم آنس وحشتهم وأرحم غربتهم وتقبل حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم اللهم طيب ثراهم واكرم مثواهم اللهم نقيهم كما ينقئ الثوب الابيض من الدنس والهم اهلهم واحبابهم الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون.الفاتحة.
[ الفاتحـــه ]▒▒▒ { ﷽ } ۞ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۞ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ۞ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۞ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۞ اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۞ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ۞ … صدق الله العلي العظيم