الإسلام السفياني: قراءة في جدلية الدين والسلطة
شادي علي |
من الضروري التأكيد في مستهل هذا التقرير أن مصطلح “الإسلام السفياني” لا يشير إلى مذهب فقهي أو تيار كلامي قائم بذاته، بل هو نموذج تحليلي نقدي يُستخدم لوصف ظاهرة تاريخية وسياسية مستمرة. يمثل هذا النموذج، في جوهره، انحرافاً عن “الإسلام المحمدي” الأصيل القائم على الرسالة والأخلاق والعدالة، ليتحول إلى “إسلام المُلك” الذي يوظف الدين كأداة براغماتية لخدمة السلطة والهيمنة والمصالح المادية. يستند هذا التمييز إلى التفريق بين “التسنن الثقافي” المرتبط تاريخياً بالدولة والقوة، والمذاهب الفقهية “السنّيّة”، محاولًا تقديم تحليل نقدي مقارن لهذه الظاهرة، متتبعاً جذورها التاريخية في الصدر الأول للإسلام، ومحللاً بنيتها الأيديولوجية، وكاشفاً عن تجلياتها في الحركات السياسية المعاصرة؛ محاولًا تقديم رؤية أعمق لأحد الانقسامات الجوهرية والمستمرة في الفكر والتاريخ السياسي الإسلامي. وتتجلى الخصائص الجوهرية للنموذج السفياني في عدة أبعاد رئيسية:
- المادية والبراغماتية: تتجسد هذه السمة في إعطاء الأولوية القصوى للمصالح المادية والسلطوية على المبادئ الأخلاقية والدينية. ويتضح ذلك جلياً في شخصية أبي سفيان، زعيم الشرك الذي لم يكن إسلامه نابعاً من قناعة، بل كان نتيجة اضطرار وخوف على حياته ومكانته وثروته بعد فتح مكة. وتكشف مقولته الشهيرة بعد تولي عثمان بن عفان الخلافة، حيث قال لبني أمية: “تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنة ولا نار”، عن عمق رؤيته المادية للسلطة باعتبارها “مُلكاً” دنيوياً لا علاقة له بالآخرة.
- العصبية القبلية: يمثل هذا النموذج عودة قوية لإحياء العصبية القبلية، وتحديداً القرشية والأموية، لتكون القاعدة الصلبة للحكم، بدلاً من الرابطة الإيمانية التي جاء بها الإسلام لتجاوز الانتماءات الضيقة.
- تحويل الخلافة إلى مُلك: يتمثل التحول الأخطر في الانتقال من مفهوم الاستخلاف القائم على الأهلية الدينية والأخلاقية (سواء تم تحديدها بالنص الإلهي كما في الرؤية الشيعية، أو بالشورى كما في المثال الراشدي النظري) إلى المُلك الوراثي القائم على منطق القوة والغلبة.
•توظيف الدين كأداة: حيث يتم استخدام النصوص الدينية، وتأويلها، وصناعة الرواية التاريخية بشكل انتقائي وممنهج، ليس لبيان الحق، بل لخدمة الشرعية السياسية للحاكم المتغلب وتبرير سياساته.
أزمة الخلافة وبذور الانقسام: من الرسالة إلى السياسة
لم تكن أزمة الخلافة بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجرد خلاف على شخصية الحاكم، بل كانت خلافاً عميقاً حول مصدر الشرعية نفسها، فقد كان الخلاف سياسياً ودينياً في جوهره، فالاجتهادات في النظرية الدينية وإن كان لها أساس فقهي إلا أنها صيغت بصياغة سياسية في لأساس؛ ففي سقيفة بني ساعدة، تبلورت ثلاثة مصادر محتملة للشرعية، استند كل طرف فيها إلى تأويلات دينية لدعم موقفه:
•الشورى: وهو المبدأ الذي يُنسب إلى التجربة الراشدية نظرياً، حيث يُترك أمر اختيار الحاكم لجماعة المسلمين أو “أهل الحل والعقد”.
•القوة والغلبة: وهو الواقع الذي فرضه المسار الأموي عملياً، حيث تصبح “الشوكة” أو القوة المادية هي المصدر الفعلي للشرعية.
•النص الإلهي: وهو المبدأ الذي قامت عليه رؤية أهل البيت وأتباعهم، حيث يرون أن الإمامة منصب إلهي لا يخضع لاختيار البشر، وأن النبي قد نص على خليفته بأمر من الله، وأن الإسلام معني بالشأن الاجتماعي والسياسي كما هو الشأن الفردي، وأن قيادة الأمة شأن ديني إلهي (بالإمامة) تمامًا مثلما هداية الأمة شأن إلهي (بالنبوّة).
إن هذا الخلاف التأسيسي حول طبيعة السلطة -هل هي إلهية أم بشرية- هو الذي فتح الباب على مصراعيه لظهور النموذج “السفياني”؛ فالنموذج الشيعي، باعتباره الإمامة شأناً إلهياً، يغلق الباب تماماً أمام الاجتهاد البشري في اختيار الحاكم، جاعلاً من السلطة جزءاً لا يتجزأ من العقيدة. في المقابل، فإن النموذج السني، بتركيزه على الشورى أو الاختيار، يفتح الباب أمام التدبير البشري، مما يجعل السياسة “أمراً مدنياً” بطبيعته. لذا كان من الطبيعي أن يستغل الأمويون هذا الانفتاح على “التدبير البشري” ويدفعوه إلى نهايته المنطقية: فإذا كانت السلطة شأناً بشرياً قابلاً للاجتهاد، فإن القوة المادية هي العامل الحاسم في حسمه، وليس بالضرورة الأفضلية الدينية أو الأخلاقية. وعليه، لم يكن صعود الأمويين مجرد انقلاب على أشخاص، بل كان تتويجاً لأحد مسارات التفكير السياسي التي بدأت في السقيفة، وهو المسار الذي يفصل، ولو جزئياً، بين الأهلية الدينية والأهلية السياسية.
عودة الجاهلية في رداء إسلامي
يمثل المسار السفياني استمرارية لمنطق “دولة قريش” في عصر ما قبل الإسلام، حيث تم استبدال عبادة الأصنام كأداة للسيطرة الاجتماعية بتوظيف الإسلام كأداة جديدة للهيمنة السياسية. فقبل الإسلام، استمدت قريش نفوذها من سيطرتها على الكعبة وموسم الحج، أي أنها كانت توظف “المقدس” لخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية، وقد حارب أبو سفيان، كرمز لهذه الطبقة الأرستقراطية، الإسلام لأنه هدد هذا النظام القائم، فكان أبا سفيان كان على رأس القوى المعادية للإسلام، وقائد الشرك في معارك مصيرية، لذا لم يأت إسلامه عن قناعة، بل كان قسرياً تحت تهديد السيف بعد فتح مكة. وتكشف مواقفه اللاحقة عن استمرار عقليته الجاهلية؛ فبعد السقيفة، حاول إثارة الفتنة بقوله: “إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم”، وعرضه البيعة على الإمام علي ليس حباً فيه، بل لإشعال حرب أهلية. وبعد الفتح، بدلاً من الإيمان بالرسالة الجديدة، تعامل معها كأمر واقع. فبدلاً من محاربة “الدين” الجديد، سعى إلى السيطرة عليه من الداخل وتوظيفه لنفس الغاية القديمة: الحفاظ على هيمنة قبيلته. ويمكن تلخيص فلسفته السياسية في مقولته لعثمان بن عفان “اجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك”، أي أن “الدين” في نظره مجرد غطاء لـ “المُلك”، وهو نفس المنطق الجاهلي ولكن بأدوات جديدة.
وقد تسلل الأمويون تدريجياً إلى مفاصل الدولة، وبلغ هذا التسلل ذروته في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذي عين أقاربه في مناصب حساسة، وأبرزها ولاية الشام لمعاوية بن أبي سفيان، مما مكنهم من بناء قاعدة قوة عسكرية ومالية مستقلة عن مركز الخلافة في المدينة، ثم شكل مقتل الخليفة عثمان بن عفان نقطة تحول كبرى، حيث استغله معاوية ببراغماتية سياسية كذريعة للتمرد على الخلافة الشرعية للإمام علي بن أبي طالب، رافعاً شعار “الثأر لدم عثمان”. ويتجلى أبرز مثال على هذه البراغماتية في مهادنته للعدو الخارجي التقليدي، الروم، وتوقيعه معاهدة معهم ليتفرغ لقتال خصمه الداخلي، الإمام علي. هذه الخطوة، التي تشير إليها المصادر التاريخية، تعتبر دليلاً محورياً على تقديم المصلحة السلطوية الشخصية على مصلحة الأمة ووحدتها في مواجهة الأخطار الخارجية.
بعد استشهاد الإمام علي، وتنازل الإمام الحسن عن الخلافة حقناً للدماء، استولى معاوية على السلطة، وبدأ التحول الأخطر في التاريخ السياسي الإسلامي: الانتقال من “الخلافة” إلى “المُلك الوراثي” عبر فرض البيعة لابنه يزيد. كان هذا الإجراء “صدمة قاسية للوجدان السياسي الإسلامي” الذي تشكل في العصر الراشدي على قيم الشورى وسيادة الأمة. وبذلك، تأسس حكم قائم على القوة والغلبة والتوريث، لا على الرضا أو الشرعية الدينية أو الأخلاقية، وهو جوهر النموذج السفياني.
إعادة كتابة الإسلام
لترسيخ شرعية حكمها، عملت السلطة الأموية على إعادة تشكيل الوعي والذاكرة التاريخية للمسلمين. بدأت هذه العملية بسياسة منع تدوين الحديث التي استمرت قرابة قرن من الزمان، منذ عهد عمر بن الخطاب وحتى عهد عمر بن عبد العزيز. هذا الفراغ التدويني أدى إلى هيمنة الرواية الشفهية، التي يسهل على السلطة التحكم فيها وتوجيهها، وفتح الباب أمام وضع الأحاديث التي تخدم مصالحها السياسية.
تلى ذلك ظاهرة التاريخ المؤدلج، حيث تم التلاعب بتقييم الرواة والمؤرخين بناءً على ولائهم السياسي. ومن الأمثلة الصارخة التي توردها المصادر، حالة الراوي “ضرار بن صرد” الذي يُعتبر “كذاباً” عندما يروي فضيلة للإمام علي، ولكنه يصبح “صحيح على شرط مسلم” عندما يروي فضيلة لأبي بكر. كما تم تهميش المؤرخين غير الموالين للسلطة، مثل اتهام المؤرخ الكبير الواقدي بالتشيع لتبرير تضعيف رواياته، رغم أنه يُعتبر مرجعاً أساسياً في المغازي والتاريخ.
في هذا السياق، لم تكن نظرية “عدالة جميع الصحابة” و”وجوب الإمساك عما شجر بينهم” التي تبنتها مدرسة أهل السنة مجرد موقف ورع، بل كانت أداة سياسية فعالة لإنهاء النقاش حول شرعية ما بعد السقيفة وتثبيت شرعية الأمر الواقع؛ فالصراعات الدامية بين الصحابة، كمعركتي الجمل وصفين، تطرح أسئلة جوهرية حول الحق والباطل. وفتح باب التحقيق النقدي في هذه الأحداث قد يقود إلى نتائج تزعزع شرعية الخط الحاكم الذي انتصر في النهاية. من خلال إعلان “عدالة الجميع” ووجوب “الكف” عن الخوض في خلافاتهم، تم تحويل قضية سياسية وتاريخية قابلة للنقد إلى قضية عقدية إيمانية محصنة من البحث. هذا الإجراء خلق “تاريخاً مقدساً” بدلاً من “تاريخ المسلمين” البشري النسبي ، وخدم بشكل مباشر السلطة القائمة عبر قطع الطريق على أي محاولة للمعارضة للتشكيك في شرعية جذورها التاريخية.
فقه الطاعة: من “البيعة” إلى “شرعية المتغلب”
تطور الفقه السياسي السني بشكل يعكس الواقع السياسي الذي فرضته الدولة الأموية. فبعد أن كانت “البيعة” في العصر الراشدي تعبيراً عن الاختيار والرضا، تحولت تدريجياً إلى مجرد إقرار بالأمر الواقع، وصولاً إلى ترسيخ مبدأ “طاعة المتغلب” بالقوة (الشوكة) كضرورة شرعية لـ”منع الفتنة”. وقد أصل لهذه الفكرة فقهاء كبار، مثل الإمام الغزالي، الذي أوجب طاعة الإمام الفاسق إذا كان خلعه سيؤدي إلى فتنة أعظم. بل إن جمهور أهل السنة لم يشترطوا العدالة في الحاكم أصلاً، يأتي هذا في تناقض صارخ مع المفهوم الشيعي الذي يربط الطاعة بـ “العصمة” و”النص الإلهي”، ولاحقًا نظرية “النيابة العامة للفقيه”، مما يجعل الخروج على الحاكم غير الشرعي (الجائر) واجباً دينياً في بعض الحالات في المدرسة الشيعية، وليس فتنة يجب تجنبها. وهكذا، تم إنتاج فقه سياسي يبرر الواقع السلطوي القائم على القوة، ويعتبر الخروج عليه خروجاً على الدين نفسه.
المؤسسة الدينية بين الاستقلالية والتبعية: مقارنة بين نظامي الخمس والأوقاف
إن الاستقلالية الاقتصادية للمؤسسة الدينية الشيعية كانت من أهم العوامل الهيكلية التي مكّنتها من تطوير نظرية سياسية معارضة وجعلتها قادرة على تعبئة الجماهير ضد السلطة، وهو ما افتقرت إليه المؤسسة السنية الرسمية تاريخياً. فالمؤسسة الدينية السنية اعتمدت بشكل كبير على نظام الأوقاف الذي كانت تشرف عليه الدولة وتديره، هذا الارتباط المالي جعلها، في معظم مراحل التاريخ، جزءاً من جهاز الدولة، وأداة لشرعنة سياساتها، مما أدى إلى تطور فقه يميل إلى “حفظ النظام القائم”.
في المقابل، قامت المؤسسة الدينية الشيعية على نظام الخمس، وهو واجب مالي يُدفع مباشرة من الأتباع إلى المراجع الدينية، دون وساطة من الدولة، هذا النظام منح المؤسسة الشيعية استقلالية مالية شبه تامة عن السلطة السياسية، مما سمح لها بتطوير فقه يميل إلى “تحدي النظام القائم” إذا كان جائراً. هذا التباين الهيكلي يفسر جزئياً لماذا نجحت الثورة في إيران عام 1979 بقيادة دينية مستقلة ، بينما فشلت محاولات الشاه لعلمنة الدولة من الأعلى. وفي المقابل، نجح أتاتورك في تركيا في تفكيك المؤسسة الدينية العثمانية بسهولة نسبية، لأنها كانت بالفعل جزءاً من بنية الدولة التي ورثها ثم هدمها. فالعلاقة بين البنية الاقتصادية للمؤسسة الدينية وقدرتها على المقاومة السياسية هي علاقة سببية مباشرة.
الإسلام السياسي السني والبراغماتية الدولية: من أفغانستان إلى واشنطن
إن منطق “العدو القريب والعدو البعيد” الذي حكم سياسة معاوية الخارجية، هو نفسه الذي يحكم إلى حد كبير التحالفات التكتيكية لكثير من حركات الإسلام السياسي السني المعاصرة. فكما صالح معاوية الروم (العدو العقائدي البعيد) للتفرغ لقتال الإمام علي (العدو السياسي القريب) ، شهد العصر الحديث أنماطاً مشابهة من البراغماتية السياسية، أبرز مثال على ذلك هو الحرب في أفغانستان في الثمانينيات، حيث تحالفت دول إسلامية سنية بارزة، بدعم من الولايات المتحدة، مع “المجاهدين” الأفغان (الذين أصبحوا حلفاء تكتيكيين) لمواجهة الاتحاد السوفيتي (العدو الأيديولوجي القريب آنذاك).
كما أن علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالغرب تكشف عن هذه البراغماتية. فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، نظر الغرب إلى الجماعة باعتبارها “جدار حماية” ضد التيارات الجهادية الأكثر تطرفاً ، وفي الوقت نفسه، سعت الجماعة إلى بناء شبكات نفوذ ومؤسسات في الغرب لخدمة أجندتها العالمية، مع الحفاظ على خطاب معادٍ للحضارة الغربية في أدبياتها الداخلية. هذا النمط المتكرر من البراغماتية السياسية، الذي يضحي بالمبادئ طويلة الأمد من أجل مكاسب تكتيكية قصيرة الأمد، هو جوهر ما يمكن تسميته بـ “الاستراتيجية السفيانية”.
العدو “التقني” والأولويات المتغيرة: إيران وإسرائيل في الخطاب السني المعاصر
في العقود الأخيرة، شهد الخطاب السياسي لدى بعض القوى السنية تحولاً لافتاً في تحديد الأولويات، حيث تم تقديم إيران كخطر وجودي ومذهبي يفوق الخطر الذي تمثله “إسرائيل”، وليس صدفة أن هذا الخطاب يخدم أجندات سياسية إقليمية ودولية تهدف إلى إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة، وقد تجلت هذه الازدواجية في مواقف شخصيات دينية مؤثرة مثل الشيخ يوسف القرضاوي، في عدة مواقف متناقضة، حيث دعم التدخل العسكري الغربي في ليبيا وسوريا، بينما أدان ثورة البحرين على أسس طائفية، وفي مراحل معينة حرم العمليات الاستشهادية في الضفة الغربية فيما حثّ الشباب السوري على اغتيال رجال النظام السوري، مما يعكس تبعية لأجندات سياسية محددة تتجاوز الموقف المبدئي من القضايا.
نقد “الخيال السياسي للإسلاميين”: نحو تجاوز الدولة الهوبزية
إن دعوة الدكتورة هبة رؤوف عزت إلى “خيال سياسي جديد” هي في جوهرها دعوة لتجاوز النموذج “السفياني” المهيمن والعودة إلى روح النموذج “المحمدي” الذي يركز على تغيير الإنسان والمجتمع قبل السيطرة على الدولة. تقدم الدكتورة هبة رؤوف عزت نقداً عميقاً لهيمنة نموذج “الدولة الهوبزية” -القائمة على القوة والسيطرة واحتكار العنف- على الخيال السياسي للحركات الإسلامية. يمكن ربط هذا النموذج الهوبزي مباشرةً بنموذج “المُلك” الأموي القائم على الغلبة والقهر، باعتباره التجسيد التاريخي الأول له في التجربة الإسلامية، حيث النموذج “السفياني” يختزل الإسلام في الدولة والسلطة والقانون، ويرى أن مفتاح الحل يكمن في السيطرة على “آلة” الحكم. في المقابل، فإن نموذج “الإسلام المحمدي”، يرى أن الهدف الأسمى هو “تغيير محتوى الإنسان الداخلي” وبناء مجتمع قائم على العدل والأخلاق، حيث تكون الدولة مجرد أداة لخدمة هذه الغاية، وليست الغاية في حد ذاتها.
إن نقد الدكتورة عزت للدولة باعتبارها “ثقباً أسود يلتهم الإيديولوجيا والأخلاق لصالح الهيمنة” هو نقد مباشر لمنطق الدولة السفيانية. ودعوتها للتركيز على “الأمة” و”المجال العام” و”الفعل التواصلي” هي محاولة لإعادة بناء السياسة على أسس أخلاقية ومجتمعية، وهو ما يمثل قطيعة جذرية مع منطق القوة والغلبة الذي هيمن على جزء كبير من التاريخ السياسي الإسلامي، فـ”الإسلام السفياني” ليس مجرد حقبة تاريخية مضت، بل هو نموذج براغماتي-سلطوي يعيد إنتاج نفسه عبر التاريخ، متخذاً أشكالاً مختلفة، من المُلك الأموي الصريح إلى بعض أطروحات وتحالفات الإسلام السياسي المعاصر. إنه يمثل رؤية للإسلام يتم فيها إخضاع المبدأ للمصلحة، والأخلاق للسياسة، والرسالة للدولة.
وعليه، فإن الأزمة العميقة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم ليست مجرد صراع سياسي على السلطة، بل هي صراع بين رؤيتين متناقضتين للإسلام نفسه: إسلام كرسالة أخلاقية تحررية تهدف إلى تحقيق العدل والكرامة الإنسانية، وإسلام كأيديولوجيا لشرعنة السلطة وتبرير الهيمنة، بغض النظر عن عدالتها، لذا تبقى التساؤلات التي يثيرها الفكر النقدي المعاصر مفتوحة وملحة: هل يمكن ولادة “خيال سياسي إسلامي” جديد يتجاوز الثنائيات المنهكة بين الدولة والأمة، والسلطة والأخلاق؟ وهل يمكن بناء نموذج للحكم ينسجم مع مقاصد الإسلام العليا في العدل والحرية والكرامة الإنسانية، متجاوزاً بذلك الإرث الثقيل لـ “الإسلام السفياني”؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة لا تحدد مستقبل السياسة في العالم الإسلامي فحسب، بل تحدد مستقبل الإسلام نفسه كقوة أخلاقية وحضارية في العالم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.