هبة أبو طه – خاص الناشر |
المباني تسقط واحدًا تلو الآخر، وعلى بُعد متر أو أقل يجلس رجل يصرخ ألمًا دون أن يلفظ حرفًا وهو يتشبث بالأرض ودمارها رافضًا تلقي العلاج وامرأته قربه جثة هامدة تحت الأنقاض، وأمهات يضعن أطفالهنّ وهنّ يمسكن بالحطام لتخفيف معاناة المخاض. منهنّ من لفظنَ آخر أنفاسهنّ بعد العناق الأول لأطفالهنّ وأخريات نجونَ وينتظرن من يأخذ بيدهن ورضّعهنّ لينتشلهم من تحت الأنقاض حيث فتى يُناجي اللّه أن تمتد له يد تخلصه من ظلام الردم، وبجانبه طفل استيقظ فجرًا دون مأوى وعائلة شتت شملها الموت كآلاف المنكوبين، وفي زاوية أخرى طفلة لم يتمكن الحزن من إخفاء محياها الجميل، وهي تحتضن شقيقها الذي يصغرها بأعوامٍ بين ذراعيها وكأنها تُشكل له ملجأ في ما تملكه لساعات.
ساعات حملت آلافًا من تلك المشاهد التي تُدمي القلب حين حلّت الكارثة على سورية فجر 6 فبراير/ شباط، وأخذت تمتد آثارها الوخيمة إلى حد اللحظة، والسواد الأعظم من العالم لم يُبصرها في وقتٍ كان يعرضها على شاشاته، ويهبُّ لنجدة تركيا التي فجعت هي الأخرى بالزلزال الذي خلف لها دمارًا، وآلافًا من القتلى والجرحى، حيث التضامن العالمي كان سيد المشهد وأخذ كل بلد يرسل كل ما يتبادر إلى ذهنكم من طائرات، وشاحنات وجسور، والخ لمد يد العون لها، وحتى الإنسانية كادت أن تُغطّي السماء، قبل أن تتوقف عند سورية، لتتجلى هنا ازدواجية المعايير بكل قبحها.
وللتنويه ما أخطه الآن ليس انتقاصًا مما حلّ بتركيا، فجميعنا تضامنّا مع الضحايا كون الأصل بالإنسانية أنها لا تتجزأ، على عكس غالبية دول العالم التي سوّتها أرضًا وهي تفتتها لجزيئات حين وصل الأمر إلى سورية، وخير دليل الصورة التي لم تُفارقنا آلامها وهي توثق مشهد الطائرات من كل صوب وحدب وهي تتجه إلى تركيا، وتترك سورية وحدها؛ باستثناء حلفائها ومن رحم ربي من العربان. ولا مشاهد هنا يستحضرها المرء سوى طائرات دول في هذا العالم، عرفت الطريق إلى سماء شامنا حين أخذت تقصفها وتُدمرها وتعيث فيها فسادًا ودمارًا منذ أكثر من عقدٍ، وعرجت عنها حين حلّت بها فاجعة الزلزال المميت، ودون ذرة خجل استمرت بإغراقنا بعبارات الإنسانية التي تنطقها وهي ذاتها تستنشق رائحة النفاق الكريهة التي تفوح منها بشكل مقيت.
وكأن الزلزال الذي ضرب سورية، والذي بلغت قوته نحو 7.8 على مقياس ريختر كان مُداعبة من الأرض، والضحايا لا تشملهم حقوق الإنسان التي يدّعيها الغرب، أو ربما الضحايا والركام في البلاد مشاهد اعتاد الغرب عليها، وهو يُذيق البلاد ويلاتها منذ سنوات.
وفي أعقاب تصاعد حصيلة الضحايا، بعداد لم يتوقف عن حصد الأرواح التي تجاوزت الألفين حتى لحظة كتابة هذا المقال، بدأت جهاتٌ تحاول بث سموم الكيان الصهيوني، وتروّج لادعاءات رئيس حكومة الكيان الكاذب نتنياهو وهو يقول إن دمشق طلبت من الكيان الغاصب مساعدات، القول الذي ينفيه الماضي كما الحاضر، ويُدلل عليه عداء البلاد لهذا المحتل، ولا عاقل يصدقه فكيف للقاتل أن يساعد المقتول! كما أكد مصدر رسمي سوري، تاركًا سؤالًا للأعداء والمغرضين، فحواه “كيف لسوريا أن تطلب المساعدة من كيانٍ قتلَ وشارك في قتل السوريين طوال العقود والسنوات الماضية؟”
المفردات تلك خرجت من رحم آلام الحرب التي مزقت البلاد قبل الزلزال الذي فاقم من طامتها، في تصريح المصدر الرسمي وهو يُفحم برده من يروجون ويصمتون أيضًا عن كذب الصهاينة بتشديده على الحقيقة التي لا خلاف عليها ألاّ وهي “أن كيان الاحتلال هو سبب الويلات والحروب والتوترات في المنطقة، وهو آخر من يحق له الحديث عن تقديم العون والمساعدة”.
إلى ذلك وبعد مرور تلك الساعات الأليمة، على الزلزال الذي ضرب سوريا، ما زال هناك أحياء ينتظرون من ينتشلهم، وأموات جثامينهم تود لو توارى في الثرى لا الحطام، ففرق الإنقاذ وطواقم الدفاع المدني والإسعاف لا تقوى على حمل هذه الفاجعة وحدها، في البلاد التي لا تطيق حزنًا وقهرًا في أعقاب الحرب التي أثقلتها وأنهكتها منذ سنوات، كما الحصار الجائر المفروض عليها. وفي سياق الحديث عن الحصار حقًا كيف يمكن لمن يحاصرها أن ينقذها من أزمتها مثل أميركا وحلفائها ممن يتبجحون بادعائهم للإنسانية أن يمدوا يد العون لسوريا وهم ينهبون خيراتها ونفطها ويخطفون أرواح أبنائها؟!
وبما أنّ صور الكارثة ما تزال تُفجعنا أفضل ما أختم به كلمات من قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش التي تداولها كثيرون برفقة الصورة سالفة الذكر التي يتجلى فيها تفتيت الإنسانية إلى جزيئات لم ولن نرى ذرة منها إزاء شامنا:
“كمْ كُنْتَ وحدك يا ابن أُمِّي
يا ابنَ أكثر من أبٍ
كم كُنْتَ وحدكْ
القمحُ مُرٌّ في حقول الآخرينْ
والماءُ مالحْ
والغيم فولاذٌ. وهذا النجمُ جارحْ
وعليك أن تحيا وأن تحيا
وأن تعطي مقابلَ حبَّةِ الزيتون جِلْدَكْ
كَمْ كُنْتَ وحدكْ
لا شيء يكسرنا،
فلا تغرق تمامًا
في ما تبقى من دم ٍ فينا”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.