عندما كتب محمود الطَّويل قصيدة “أَضمك” وغنَّاها الشَّيخ إمام لسليمان خاطر، اجتمع وقتها الشِّعر والموسيقى كما كان يحدث في كلِّ الأمم والعصور. لم يكن الهدف وقتها تقديم لوحة فنِّيَّة لإمتاع الجمهور وتسليته، إنَّما ألَّا يبقى سليمان خاطر وحيدًا، أو إذا صحَّ القول كي يبقى إدراك سليمان خاطر الوطنيِّ في ذهن التَّاريخ والأمَّة والأجيال.
غنَّى الشَّيخ إمام
وآخر كتابي أيا مهجتي
أمانة ما يمشي
ورا جثتي
سوى المتهومين بالوطن
تهمتي
فداكِ بدماي اللي شغلة الخواطر
بطول الزمان
مرَّت ستٌة وثلاثون عامًا على حادثة نقطة الصِّفر الَّذي انطلق منها سليمان خاطر في جنوب سيناء، باختيارات وطنيَّة صُقلت في روحه بالفطرة وكوَّنت لديه وعيًا استثنائيًّا أبى أن يموت في لعبة السَّياسة الكبرى، منفِّذًا تعاليم الجيش المصري بألَّا يدخل أحدٌ منطقة الجيش المحظورة، أنذر سليمان اثني عشر جنديًّا إسرائيليًّا بأنَّه سيطلق النَّار في حال تقدَّموا أكثر، لكنَّهم لم يستجيبوا، فأطلق عليهم النَّار مرديًا سبعةً منهم. عندما حُكم بالسِّجن المؤبَّد عام 1985 في عهد الرَّئيس حسني مبارك – هذا يثبت عمق الهوَّة بين الأنظمة العربيَّة وشعوبها – قال القاضي وقتها أنا أحكم على ورق، وعلَّق خاطر على الحكم: “أنا لا أخشى الموت، ولا أرهبه، إنَّه قضاء الله وقدره، لكنِّي أخشى أن يكون للحكم الَّذي سوف يصدر ضدِّي آثار سيِّئة على زملائي، فيصابون بالخوف وتُقتل فيهم وطنيَّتهم”.
في تحليل دلاليٍّ بسيط لعبارة خاطر نرفد إلى كميَّة الوعي الكبيرة الَّتي أحاطت بناءه النَّفسيِّ، الوعي الَّذي تقوض على مدار الأحداث الدَّموية الَّتي أحاطت بمنطقتنا عبر كلِّ التَّاريخ، طمس الوعي، والسُّقوط في شبهات الحقائق، وتغيير المفاهيم عبر إيجاد مصطلحات جديدة لثوابت كانت قد لازمتنا كأبناء مجتمع واحد وإخضاعها للنِّقاش والمعمعة، وتعدُّد الآراء، وهكذا إنَّ هذا الوعي المرتبط بالمسؤوليَّة الفرديَّة يتشكَّل كعقيدة مركزيَّة تنطلق منها السُّلوكيَّات العامَّة، فيصبح الفرد على إثره عارفًا واجبه الأخلاقيِّ والإنسانيِّ والوطنيِّ. الوعي نفسه الَّذي مكَّن ناجي العلي من خلق شخصيَّة حنظلة وتجسيدها عبر رسومات تصل للآخر وتعمل على تحفيز الوعي لديه، هو نفسه الَّذي جعل غسان كنفاني يتساءل لم لا يطرقون الخزَّان، هو نفسه الَّذي صوَّر وكوَّن وشكَّل مدن الملح لعبد الرَّحمن منيف.
على حدود سيناء في العام 1985 وعلى حدود غزَّة مع الجدار العنصريِّ في العام 2021 المسافة صفر تدخل التَّاريخ، الزَّمن هنا لا يسير في خط أفقيٍّ، إنَّما يدور في حلقة واحدة، وفي ذكرى حرب أكتوبر وانتصار الجيش المصري، ولاحقًا مؤامرة السَّلام الوهميِّ، لم يغب يومًا الوعي المرتبط بقضية الالتزام عن ذهن الفرد العربيِّ ولو تقلصت القدرات، وتقوَّضت الوسائل، في الزَّمن الَّذي امتدَّ من يوم النَّكسة في حزيران 1967 وكلِّ الانهيارات الَّتي أصابتنا، وكلّ الويلات الَّتي أحاطت بنا، لم يغب الوعي يومًا عن الفرد العربي بأطيافه كافَّة، مهما زادت اتِّفاقيَّات السَّلام، وكبرت المؤامرات وضعفت المقدرات، إلَّا أنَّ الوعي اتِّجاه القضيَّة في التزامها هو الهاجس الأوَّل الَّذي حققَّ لنا شيئًا من المواقف الثَّابتة في زمن الانهيارات الكبرى، وهذا نفسه يتكرَّر كلَّ يوم في محاولات شباب فلسطين مواجهة العدوِّ الاسرائيليِّ في أحياء الدَّاخل الفلسطينيِّ، وفي عمليَّة مسافة صفر على الحدود مع غزَّة، وفي الفلسفة الوجوديَّة الَّتي ظهرت تجليِّاتها في نفق الحريَّة، حتَّى في الانسحابات للرِّياضيِّين العرب أمام الإسرائيليِّين في المحافل الرِّياضيَّة العالميَّة. لم يغب يومًا الوعي عن الفرد العربيِّ المقهور بل لازمه مع غصَّة وفعل جبَّار في كلِّ أويقات نهاره.
طالما كان الوعي للقضيَّة حلقة دائريَّة من ذاك الجندي الَّذي كتب بدمه اسم مصر على العلم في حرب أكتوبر، إلى سليمان خاطر، إلى عمليَّة المسافة صفر، وإلى نفق الحريَّة. هذه كلها نقاط صفر تعيد الجوهر إلى مكانه، وتؤكِّد أنَّ الوطن لن يلوكه الغرباء ولن يبقى في قصيدة، سيعود وطن الحبِّ والمجد كما كان.
هذا الوعي الفرديٌّ الَّذي يحتاج إلى محفِّز تراكميٍّ يعمِّمه ويقوِّيه ويجذِّره في المجتمع العربي إلى ماذا يحتاج كي ينشئ حالته التَّراكميَّة هذه؟ ما الَّذي يحفِّز هذه الحالة؟ الوعي الفرديُّ الَّذي يقع بين حالة الطَّمس وحالة الوجود يحتاج إلى الانتصارات العسكريَّة الميدانيَّة كي يطغى هذا التَّحفيز في منطقة نفوذ القوى المهيمنة، هذه الانتصارات الَّتي ظهرت في محور المقاومة على إسرائيل وداعش، هذا المحور يتعرَّض إلى هجمة شرسة لتقويضه لأنَّه المحور الأوَّل لتحفيز الوعي عند الفرد العربي.
الوعي الفرديُّ العربي بين حالتين إمَّا التَّحفيز والتَّعزيز، وبالتَّالي تكثيف صورة الوعي لإحداث تغيير شامل، وإمَّا الاستمرار في كيِّ هذا الوعي والسُّقوط في الظَّلام أكثر فأكثر.
محفِّزات الوعي القائم نمتلكها لنتآزر ونصنع منها وعيًا ممكنًا يأخذنا إلى سالف عهدنا.