خلال الأسبوعين الماضيين، واجهت الحكومة الإسرائيلية برئاسة نفتالي بينيت، أزمتين يمكن أن تقودا إلى انهيار الائتلاف الحاكم، وتصدع في العلاقات العربية – اليهودية بالداخل الإسرائيلي، وقد يتطور الوضع إلى عودة الحرب بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس في قطاع غزة.
ويبدو أن فصل هاتين الأزمتين سيكون صعباً، فمن ناحية فقد الائتلاف الحاكم أغلبيته في الكنيست وربما بات انهياره “سياسياً” مسألة وقت. ومن ناحية أخرى، يمثل التصعيد الجاري بين قوات الأمن الإسرائيلية والمحتجين الفلسطينيين في القدس عاملاً محفزاً لإشعال الجبهتين السياسية والأمنية معاً، حيث منح بينيت القوات الإسرائيلية تفويضاً مفتوحاً لاستخدام أي وسيلة تراها لمواجهة أعمال العنف في القدس وشمال الضفة الغربية.
فيما أعلنت “القائمة العربية الموحدة” بزعامة منصور عباس، والتي تدعم الائتلاف الحاكم من الخارج، تجميد دعمها لحكومة “بينيت – لابيد” في الكنيست احتجاجاً على أحداث المسجد الأقصى تحديداً، بعد اقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد ودخولها في صدام مع فلسطينيين اعترضوا على دعوات مستوطنين إسرائيليين ويهود لاقتحام الأقصى تزامناً مع عيد الفصح اليهودي. وهدد عباس بسحب تأييده كلية للحكومة الحالية إذا ما تواصلت هذه المواجهات؛ وهو ما سيعني حال تنفيذ تهديده، سقوط الحكومة، والدعوة لانتخابات مُبكرة بغض النظر عن اتجاه التطورات في القدس لاحقاً نحو تهدئة أو مزيد من التصعيد. وحسب التقارير المنشورة في الصحف الإسرائيلية، لا يزال عباس يقاوم ضغوطات قائمته للانسحاب بشكل عاجل من الحكومة الحالية، ولكن من غير المرجح استمرار قدرته على السيطرة على غضب نواب قائمته في الكنيست أو المعارضين له في الوسط العربي لوقت طويل.
ولأنه من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه المواجهات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي قد تقود إلى تصدع الائتلاف الحاكم، فيبدو أن الأهم في هذه المرحلة عرض وتحليل الوضع الذي يجسد أزمة هذا الائتلاف بشكل منفصل عن الوضع المتدهور أمنياً في الوقت الراهن.
أزمة سياسية جديدة
عقب إعلان عضوة الكنيست “عيديت سيلمان” استقالتها من الائتلاف الحاكم في إسرائيل، يوم 7 أبريل 2022، وفقدان الائتلاف للأغلبية الضئيلة التي يتمتع بها؛ يدور السؤال الآن حول مستقبل حكومة “بينيت – لابيد” بعد هذا الإعلان؟
فمن الناحية المبدئية، ليس متوقعاً حسم هذا الملف قبل مطلع مايو القادم (موعد انتهاء عطلة الكنيست)، وخلال هذه الفترة القصيرة سيحاول رئيس الوزراء، نفتالي بينيت، إنقاذ الائتلاف الذي يقوده، وستحاول المعارضة بزعامة بنيامين نتنياهو التعجيل بإسقاط الحكومة الحالية وتشكيل ائتلاف بديل. والمحاولات من الجانبين تتضمن عقبات كبيرة، وبما يرجح في النهاية احتمال ذهاب إسرائيل لانتخابات مُبكرة ستكون الخامسة في غضون أقل من 3 سنوات، ولكنها لن تحل بدورها الأزمة السياسية الممتدة في البلاد منذ سنوات.
صعوبات بقاء الائتلاف
بعد استقالة “سيلمان”، بات الائتلاف الحاكم يتمتع بتأييد 60 نائباً فقط في الكنيست، وما لم تقم المعارضة بطلب سحب الثقة من الحكومة، يمكن لرئيسها، بينيت، الاستمرار في الحكم، ولكن سيكون من الصعب على حكومته تمرير أي قانون في الكنيست يتطلب الموافقة علية أغلبية 61 نائباً على الأقل، وهو ما يعني أن الحكومة ستكون مصابة بالشلل عملياً.
إن المهمة العاجلة لبينيت قبل انتهاء عطلة الكنيست، هي منع مزيد من الانشقاقات داخل الائتلاف الذي يقوده. ولكن إذا كان بينيت قد فشل عند تشكيل الائتلاف في يونيو 2021، في إقناع نائب من حزبه وهو “عميحاي شيكلي” للتصويت لصالح هذا الائتلاف، ثم فشل حالياً في منع “سيلمان” المنتمية أيضاً لحزب “يمينا” من التمرد عليه؛ فهل يمكنه منع نواب آخرين من داخل “يمينا” والأحزاب المشاركة في الائتلاف من الانشقاق عليه؟
والأهم من ذلك أن أداء حكومة “بينيت – لابيد” خلال الأشهر التسعة تقريباً التي قضتها في السلطة حتى الآن، لم يكن على مستوى توقعات الشارع الإسرائيلي من أكثر من زاوية، وهي:
1- تدهور الأوضاع الأمنية في الداخل الإسرائيلي الذي شهد خلال شهر مارس الماضي وقوع ثلاث عمليات هجوم نفذها فلسطينيون (بعضهم من عرب 48)، وأدت إلى مقتل 14 شخصاً، وإصابة عشرات غيرهم.
2- ارتفاع حدة التوتر بين العرب واليهود في الداخل الإسرائيلي؛ بسبب استمرار أزمة مصادرة منازل العائلات العربية في حي الشيخ جراح بالقدس من جانب، ومشاركة بعض أبناء عرب 48 في الهجمات التي شهدتها إسرائيل في شهر مارس الماضي. وهو التوتر المرشح تصاعده في ظل المواجهات الحالية بين القوات الإسرائيلية والفلسطينيين في القدس والضفة الغربية.
3- عجز الحكومة الحالية عن مواجهة التداعيات الاقتصادية المستمرة لجائحة كورونا، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة بالنسبة للفئات الأشد احتياجاً في المجتمع الإسرائيلي.
وفي ظل هذه العناصر الثلاثة، يمكن القول إن ائتلاف “بينيت – لابيد” يفتقد التأييد الشعبي لبقائه في الحكم؛ بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية، كما يمكن أن تؤدي زيادة التوترات بين العرب واليهود في الداخل الإسرائيلي إلى نشوب مواجهات عنيفة بين الجانبين كما حدث في أزمة حي الشيخ جراح في العام الماضي، وهو ما قد يدفع الكتلة العربية المؤيدة للائتلاف والتي يقودها منصور عباس (زعيم القائمة العربية الموحدة)، لحجب تأييدها لبينيت، ومن ثم سقوط حكومته رسمياً.
أزمة المعارضة الإسرائيلية
على الرغم من المأزق الذي تعيشه حكومة “بينيت – لابيد” والذي يهدد بقاءها، فإن المعارضة التي يقود جبهتها زعيم “الليكود” ورئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، تجد نفسها في مأزق مشابه يحرمها من تشكيل حكومة بديلة. فالكتلة الصلبة لنتنياهو في الكنيست والمكونة من “الليكود” وأحزاب “شاس، ويهودت هتوراه، والصهيونية الدينية”، تمتلك معاً 52 مقعداً، ويجلس معها في مقاعد المعارضة كتلة “القائمة المشتركة” – قائمة يسارية من العرب واليهود- والممثلة بـ 6 مقاعد، بالإضافة إلى عضوين تمردا على الائتلاف وينتمي كلاهما لحزب “يمينا” (عميحاي شكلي، وعيديت سيلمان)؛ وذلك بمجموع 60 مقعداً. ويحتاج نتنياهو إلى ضمان تأييد “القائمة المشتركة” ومعها العضوان المتمردان من “يمينا”، بالإضافة الي جذب تأييد عضو آخر على الأقل من جبهة “بينيت – لابيد”، لكي يتمكن من طرح التصويت بالثقة على الحكومة الحالية، وتقديم نفسه كتكتل قادر على أن يكون بديلاً، من دون الذهاب إلى انتخابات مُبكرة. ولكن يبدو مستبعداً أن يتمكن نتنياهو من العمل على هذا السيناريو بسبب تعقيد حساباته، ومن ثم لن يكون أمامه إلا البحث في أحد البديلين التاليين:
1- محاولة إقناع بيني جانتس، زعيم حزب “كاحول لافان” أو “أزرق أبيض” ووزير الدفاع في الحكومة الحالية، بالانشقاق عن الائتلاف الحاكم، وتشكيل حكومة بديلة، بحيث يتولى جانتس نفسه رئاستها، على أن يشغل نتنياهو موقع نائب رئيس الحكومة، إلى جانب حقيبة الخارجية.
2- انتظار حدوث مزيد من الانشقاقات في ائتلاف “بينيت – لابيد”، وترك الحكومة تسقط، وحل الكنيست، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات مُبكرة.
وفيما يتعلق بالبديل الأول، لا يضمن نتنياهو تغيير الوضع القائم من خلاله، حيث يمتلك حزب “كاحول لافان” 8 مقاعد في الكنيست، وفي حالة قبوله عرض نتنياهو سيكون التكتل الجديد مؤيداً بـ 60 نائباً فقط، أي لن يكون بوسعه تشكيل ائتلاف بديل. وسيحتاج نتنياهو وجانتس، في هذه الحالة، إلى جذب نائب أو أكثر من ائتلاف بينيت أو من كتلة “القائمة المشتركة”؛ وذلك لتشكيل ائتلاف جديد يمكن تمريره في الكنيست. وهذا أمر يبدو مستبعداً نظراً لتعدد الافتراضات الداخلة فيه، والمبنية على التمنيات أكثر من اعتمادها على الحقائق الماثلة على الأرض، حيث أعلنت “القائمة المشتركة” مراراً انها لن تدعم بينيت أو نتنياهو، كما أدت دعوة رئيس القائمة، أيمن عودة، مؤخراً لمواطني عرب 48 الذين يعملون في الشرطة الإسرائيلية، للتمرد وإلقاء أسلحتهم وعدم توجيهها إلى أشقائهم في الداخل أو الأراضي المحتلة؛ إلى مطالبة معظم الأحزاب الصهيونية في الكنيست بطرد عودة ومحاكمته. أيضاً، يتحفظ حزب “الصهيونية الدينية”، المؤيد لنتنياهو، على إمكانية الجلوس في ائتلاف واحد مع جانتس؛ بسبب تأييد الأخير لحل الدولتين واستمرار اتصالاته مع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس.
بمعنى أكثر وضوحاً، يبدو صعباً أن يمضي نتنياهو في المسار الأول، ولن يبقى أمامه عملياً سوى البحث في البديل الثاني؛ أي بذل مزيد من الجهد لتفكيك جبهة “بينيت – لابيد”، ومن ثم حل الحكومة والكنيست والدعوة لانتخابات مُبكرة، ستكون حينها الخامسة في خلال أقل من 3 سنوات.
سيناريو الانتخابات المُبكرة
وفقاً للقواعد الحاكمة للكنيست ولقانون تشكيل الحكومة، يمكن أن يستمر ائتلاف “بينيت – لابيد” حتى من دون أغلبية الـ 61 مقعداً في البرلمان، ولكن سقوط الائتلاف والدعوة لانتخابات مُبكرة سيكون حتمياً عندما يبدأ الكنيست في التصويت على مشروعات القوانين التي سيقدمها الأعضاء أو الحكومة. فعلى فرض بقاء الائتلاف الحاكم حتى يونيو القادم، فإن الاتفاق الذي توصلت إليه أحزاب الائتلاف عند تكوينه كان يقضي بعدم تقديم أي حزب خلال العام الأول من عمر الائتلاف أي مشروع قانون يؤدي إلى خلافات حادة بين أطرافه لتجنب إسقاط الحكومة عند التصويت عليه. وبنهاية المدة الزمنية للاتفاق، ربما يسارع كل حزب إلى تبني مشروعات قوانين تُلبي تطلعات قواعده الانتخابية تحسباً لاحتمال إجراء انتخابات مُبكرة، وهو ما سيُعجل بنهاية الائتلاف في ظل تشكيلته الموزعة على انتماءات أيدولوجية متناقضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن إسرائيل ستواجه احتمالاً كبيراً للدخول إلى انتخابات مُبكرة قد يتم إجراؤها في سبتمبر القادم، ولكن هل ستحل هذه الانتخابات الأزمة السياسية المستمرة منذ 4 سنوات؟
واقع الأمر أن هذه الأزمة تنطوي على عناصر متعددة يصعب تصور التغلب عليها في المستقبل المنظور، وأهمها ما يمكن تسميته بـ “معضلة نتنياهو”، الذي استمر في منصبه كرئيس للحكومة لمدة تزيد على 12 عاماً، وخلال هذه السنوات واجه نتنياهو اتهامات بالفساد وسوء استخدام النفوذ من دون أن تتمكن المحكمة حتى اليوم، من إدانته؛ وهو ما أدى إلى شعور قطاع كبير من المجتمع الإسرائيلي بخطورة استمراره في الساحة السياسية، سواء على صعيد تداول السلطة كفكرة جوهرية في النظم الديمقراطية، أو على صعيد صورة إسرائيل في الداخل والخارج كدولة تحترم مبدأ سيادة القانون.
وعلى الجانب الآخر والمعاكس تماماً، كان الناخب الإسرائيلي على استعداد لمنح نتنياهو الفرصة للبقاء من خلال استمرار حصول “الليكود” على أكثرية المقاعد في الكنيست خلال 4 انتخابات متتالية تم إجراؤها منذ عام 2018. وهذا ما أظهر بوضوح ضعف الكتل الحزبية المنافسة لـ “الليكود”، وافتقار الحياة السياسية الإسرائيلية للقدرة على توليد زعامات بديلة لنتنياهو، وهو ما يبدو أنه سيستمر لعقد قادم (إذا لم يتم إزاحة نتنياهو بحكم قضائي).
وتدعم استطلاعات الرأي التي أُجريت في إسرائيل مؤخراً، فرضية استمرار التناقض في سلوك المواطن الإسرائيلي الذي يُبدي عدم رضائه عن نتنياهو فيما يتعلق بقضية نظافة اليد ونزاهة الحكم، في الوقت الذي يمنح قطاع كبير من الإسرائيليين أصواتهم لنتنياهو ولحزبه في الانتخابات العامة. ففي الاستطلاع الذي نُشرت نتائجه في 8 أبريل 2022، سيحصل “الليكود” في الانتخابات إذا ما تم إجراؤها الآن على 35 مقعداً، بينما يحصل حزب “يش عتيد” برئاسة وزير الخارجية الحالي، يائير لابيد، على 19 مقعداً، وحزب “شاس” على 9 مقاعد. فيما تحصل أحزاب: “العمل، كاحول لافان، الصهيونية الدينية، يهودت هتوراه”، على 8 مقاعد لكل منها على حدة. وتأتي لاحقاً أحزاب: “إسرائيل بيتينو” بزعامة أفيغدور ليبرمان 6 مقاعد، و”القائمة المشتركة” 6 مقاعد، و”يمينا” الذي يقوده بينيت 5 مقاعد، فيما يحصل حزبا “ميرتس” و”القائمة العربية الموحدة” على 4 مقاعد لكل منهما. أما حزب “تكفاه حدشاه” (أمل جديد)، المشارك في ائتلاف بينيت، فيتوقع الاستطلاع ألا يعبر نسبة الحسم.
وعلى فرض أن هذه النتائج ستكون نفسها في الانتخابات المقبلة، فإن جبهة نتنياهو وحلفائه ستحصد 60 مقعداً، وسيكون عليها جذب نائب واحد على الأقل لتشكيل الحكومة المنتظرة، وهو أمر تُظهر الصعوبات السابق سردها عدم إمكانية تحقيقه. ولكن نتائج نفس الاستطلاع تشير إلى زيادة مقاعد حزب “الليكود” بخمسة مقاعد، وزيادة قوة جبهة اليمين الحليفة لنتنياهو بثمانية مقاعد؛ مما يعزز حقيقة أن نتنياهو سيظل الرقم الصعب في معادلة الاستقرار السياسي الإسرائيلي، وليس أمام الجبهة المعارضة له سوى الرهان على إمكانية إدانته بحكم قضائي، أو إبعاده عن الحياة السياسية بصفقة مع المُدّعي العام تُنهي القضايا المتهم فيها نتنياهو مقابل عدم توقيع عقوبة بسجنه، بالإضافة إلى منعه من العمل السياسي لمدة لن تقل عن 5 أعوام.
الحالة البلجيكية
تشير العديد من التقارير المنشورة في الصحف الإسرائيلية، إلى أن حسم مصير نتنياهو في القضاء قد يمتد لفترة طويلة قد تصل إلى 3 أعوام، وهو ما يعني أن الاستقرار السياسي سيظل غائباً عن إسرائيل لفترة طويلة مقبلة، وقد تدخل تل أبيب في “الحالة البلجيكية”، حيث ظلت بروكسل على مدى سنوات محكومة بحكومات انتقالية بسبب عجز الناخبين عن اختيار أحزاب قادرة على تشكيل حكومة مستقرة. وبالنسبة لإسرائيل، التي تواجه تحديات أمنية صعبة، سواء في الداخل أو على صعيد ما تراه تهديداً وجودياً من جانب إيران بسبب سعيها لامتلاك السلاح النووي، لا يبدو أنها (أي إسرائيل) قادرة على تحمل “الحالة البلجيكية” لفترة طويلة. وبالتالي فهل سيحسم الناخب الإسرائيلي في الانتخابات المقبلة أمره بأن يقبل “مضطراً” بنتنياهو وحلفائه للتغلب على أزمة عدم الاستقرار السياسي؟
سعيد عكاشة – المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة