تقدّم المشهد العراقي خطوة إضافية نحو «المربّع الأحمر»، مع تسجيل أوّل عمل أمني مرتبط بالصراع الدائر على نتائج الانتخابات النيابية المبكرة التي أُجريت أخيراً، في ظلّ ترقّب الجميع النتائج النهائية التي من المتوقّع أن تعلن عنها «المفوّضية العليا للانتخابات»، بعد البتّ بالطعون المقدّمة. إلّا أن ما أُعلن فجْر أمس عن محاولة لاغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، باستهداف منزله بطائرات مسيّرة، وُضِع سريعاً في سياق التدافع والتجاذبات السياسية بين القوى والأحزاب، وأضيف إلى كومة الملفّات الخلافية بينها.
بدا سريعاً، منذ اللحظة الأولى للإعلان عن هجوم بطائرات مسيّرة على منزل الكاظمي المحصّن في المنطقة الخضراء في بغداد، أن الحدث دخل في بازار الاتهامات والاتهامات المتبادلة، خصوصاً مع تولّي وسائل الإعلام الخليجية المموّلة من السعودية والإمارات، التغطية المباشرة واللحظية للحدث، وما حملته هذه التغطية من تلميحات تارة واتهامات مباشرة تارة أخرى، طاولت «الحشد الشعبي» والقوى التي «تأتمر بأوامر إيران»، بالوقوف وراء محاولة الاغتيال، بصفتها المتضرّر الأول من نتائج الانتخابات، وبكونها مَن يحرّك الشارع اعتراضاً. تلت ذلك سلسلةُ إدانات دولية افتتحتها الولايات المتحدة الأميركية. إلّا أن «تلميحات عراقية رسمية» إلى جهات محدّدة هي المسؤولة عن محاولة الاغتيال، وردت في بيان مجلس الوزراء العراقي، وأخرى وردت في مواقف عدد من الشخصيات الفاعلة، قد تفتح الباب واسعاً أمام مرحلة من المواجهة المحتدمة بين المُتَّهَمين والمُتَّهِمين.
مصادر مقرّبة من الكاظمي تقول، لـ«الأخبار»، إن الأخير لم يتّهم جهة بعينها، لكنه يعتبر أن «التحقيق مطلب محقّ لحماية العراق والعملية السياسية فيه، ولمنع الولوج مجدّداً إلى مرحلة الفتنة والفوضى». وتشير المصادر إلى أن «التحقيقات سيشرف عليها الكاظمي شخصياً، وستكون حاسمة في معرفة هُوية الجهات التي تقف خلف العملية»، معتبرة أن «الحقيقة تحمي العملية السياسية بكلّ تلاوينها وتناقضاتها، كما أنها تمنع وضع الملفّ في إطار التجاذبات السياسية القائمة».
على المقلب الآخر، لدى قوى «الإطار التنسيقي» المعترضة على نتائج الانتخابات، روايتها لما حصل. بدا واضحاً أن تلك القوى تُقلّل من أهمية الحدث، وتضعه في إطار «محاولة الكاظمي تدارك المشهد الذي نتج من قمع المتظاهرين المحتجّين على نتائج الانتخابات وقتلهم بالرصاص الحيّ»، على ما تناقل أكثر من مصدر مقرّب منها إثر الإعلان عن فشل محاولة لاغتيال الكاظمي. وأيضاً، هذا ما أمكن فهمه من المواقف الأولى لكثير من قادة الفصائل والحركات المنضوية تحت لواء «التنسيقي» أو تدور في فلكه، كتصريحات الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق» الشيخ قيس الخزعلي، والأمين العام لكتائب «سيد الشهداء» أبو آلاء الولائي، والمتحدث باسم «كتائب حزب الله» أبو علي العسكري، الذي قال في تغريدة له إنه «لا أحد في العراق لديه الرغبة بخسارة طائرة مسيّرة على منزل رئيس وزراء سابق»، في إشارة إلى رفض تعيين الكاظمي مجدّداً على رأس الحكومة المقبلة.
وفي هذا الصدد، تقول مصادر في «الإطار التنسيقي»، لـ«الأخبار»، إن «الحدث الذي وقع في منزل الكاظمي، يخدم فكرة خلق اصطفافات جديدة في العراق تكون عابرة للاصطفافات التي تشكّلت عقب انتخابات العاشر من تشرين الأول»، معتبرة أن «تكتّل قوى وأحزاب وشخصيات عديدة من الذين يعتقدون، بقوّة الأدلة، بوجود تلاعب في نتائج التصويت، كان غير متوَقّع بالنسبة إلى مَن يدير لعبة تغيير الواقع العراقي عبر فبركة نتائج الانتخابات، خصوصاً أن ذلك التكتّل قادر على التوافق على تشكيل الكتلة النيابية الكبرى التي من حقها دستورياً تسمية الشخصية التي تتولّى تشكيل الحكومة المقبلة»، لذا «كان من الضروري خلق حدث تكون له تداعياته ويقسم المشهد في العراق إلى ما قبل وما بعد، ويدفع الكثير من القوى والشخصيات نحو تغيير مسارها ومواقفها تحت ضغط العاصفة الهوجاء من المواقف الدولية والإقليمية والمحلية المبنيّة على هذا الحدث»، مبديةً خشيتها من «نجاح محاولة أخرى قد تستهدف أيّاً من القيادات السياسية الأساسية، فيما لو فشلت هذه المحاولة اليوم في تحقيق مآربها المبتغاة».
تدعو هذه المصادر إلى فتح تحقيق جدّي وشفّاف، أولاً «لمعرفة طبيعة الحدث»، إذ إنها تَعتبر أن «الرواية عن هجوم بثلاث طائرات مسيّرة، تمّ إسقاط اثنتَين منها فيما تمكّنت الثالثة من متابعة سيرها نحو هدفها، بحسب بيان الداخلية العراقية، صيغت لتؤشّر إلى أطراف بعينها تتّبع هذا الأسلوب من الهجمات على أهداف معادية في إطار عملها المقاوم والمشروع»، وثانياً «لمعرفة الأطراف التي تقف خلفه وأهدافها الحقيقية، لأن وصول ثلاث طائرات مسيّرة من خارج المنطقة الخضراء إلى منزل الكاظمي في قلب المنطقة الشديدة التحصين، يطرح تساؤلات عن مسؤولية الجيش الأميركي ومنظوماته الحمائية»، الموجّهة لحماية البقعة الجغرافية التي تبلغ مساحتها نحو 10 كلم2، وتُعدّ أكثر «منطقة عسكرية» تحصيناً في العراق، وتضمّ مقرّات الحكومة والجيش، ومكاتب مجلس الوزراء ومجلس النواب وهيئة المستشارين وهيئة الاستثمار، وجهاز الأمن الوطني وجهاز الاستخبارات العراقي، والأهمّ وجود السفارة الأميركية التي تمتلك منظومة «سيرام» الدفاعية التي استُخدمت أخيراً لصدّ هجمات صاروخية شنّتها «ميليشيات موالية لإيران» بحسب أدبيات السفارة الأميركية.
سياسياً، لا يزال الانسداد مخيّماً على المشهد في العراق، خصوصاً مع تأخّر المفوضية العليا للانتخابات في الإعلان عن «موقفها» النهائي. وفيما البتّ في الطعون يحتاج إلى المزيد من الوقت، ترى مصادر سياسية أن هذا الوقت هو «مدخل مناسب لجميع أنواع جسّ النبض في الشارع وخارجه، فيما المطلوب والهدف واحد يتمثّل باختبار ما ستكون عليه المواقف النهائية للأطراف التي تستعرض قواها الشعبية والسياسية وتتبادل الرسائل وتحصّن أوراق قوّتها». وتقول هذه المصادر، لـ«الأخبار»، إن «ما يحصل في العراق اليوم من إعادة تسخين للأوضاع إنّما يتساوق والأجواء الإقليمية التي يبدو أنها عادت وتلبّدت بالغيوم متأثّرة بعدم الإيجابية المرجوّة من اللقاءات السعودية الإيرانية»، مستدلّة على ذلك بما يجري في لبنان من تأزيم للأوضاع وتعطيل للحياة السياسية ربطاً بالأزمة المستجدّة مع السعودية والدول الخليجية الأخرى، إضافة إلى الأوضاع الآخذة في التعقيد عراقياً. وتُرجع المصادر الأمر إلى «الحسم الآخذ في التبلور على خطّ جبهة مأرب»، لافتة إلى أن «هدف السعودية الأساسي من اللقاءات البغدادية مع الإيرانيين كان الملفّ اليمني».
على أيّ حال، يبدو أن الأطراف العراقية ثابتة، كلّ على مواقفه، في حين يتحضّر «الإطار التنسيقي» ومَن معه لمرحلة جديدة من تفعيل الاعتراض في الشارع، على وقع الدم الذي أُريق على أعتاب المنطقة الخضراء، في أوّل مواجهة عنيفة بين مناصريه والقوى الأمنية، لا يستبعد الكثير من المراقبين العراقين أن تتكرّر وتصبح أكثر عنفاً.
وبينما يرى «التنسيقي» أن دماء المتظاهرين «وضعت حدّاً لحلم الكاظمي بولاية ثانية»، وفتحت الباب على مصراعَيه لمواجهة يريدها «التنسيقيون» سياسية – ديمقراطية، يبدي الكثير من العراقيين خشيتهم من أن يكون سيناريو محاولة اغتيال الكاظمي نافذة إلى سيناريوات أخرى قادمة، أكثر قتامة.
حمزة الخنسا – الاخبار