التقدم البحري الصيني في مواجهة الهيمنة الأمريكية: كيف تغيّر “فوجيان” قواعد اللعبة؟

شهدت البحرية الصينية تطوّرًا بارزًا هذا الأسبوع مع الإعلان الرسمي عن دخول حاملة الطائرات “فوجيان” الخدمة الفعلية، خلال حفل احتفى به كبار المسؤولين العسكريين وعلى رأسهم الرئيس شي جين بينغ، وهو حدث يعكس تصاعد إستراتيجية الصين البحرية وتوجهاتها لتعزيز قدراتها في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية في المحيط الهادئ وخصوصًا بحر الصين الجنوبي وتايوان.

أولًا: دلالات التوقيت
تسليم “فوجيان” للأسطول البحري الصيني في هذه الفترة يحمل رسائل متعددة، إذ يأتي وسط ظروف إقليمية متوترة تتعلق بالمطالبات البحرية في بحر الصين الجنوبي وتعزيز التعاون الأميركي – الأسترالي – الفلبيني العسكري. التوقيت يبدو محسوبًا لإيصال رسالة بأن الصين لم تعد في موقع الترقب، بل انتقلت لموقع المبادرة وفرض الوقائع الميدانية، خاصة مع تقاطر حاملات الطائرات الأميركية في غرب المحيط الهادئ خلال الأشهر الماضية.

وكان شهد غرب المحيط الهادئ نشاطًا متزايدًا لحاملات الطائرات الأميركية، تَمثّل في انتشار ثلاث حاملات في وقت متزامن بالمنطقة وهي: “يو إس إس كارل فينسون”، و”يو إس إس ثيودور روزفلت”، و”يو إس إس رونالد ريغان”؛ في مشهد يُعتبر نادر الحدوث منذ سنوات طويلة، ويعكس جدية الاستعدادات الأميركية. هذا الانتشار جاء في سياق تنامي التوترات مع الصين، حيث نفّذت هذه الحاملات ومجموعاتها القتالية مناورات بحرية مشتركة وأعمالًا أمنيّة قرب تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، ما اعتبر رسالة مباشرة لبكين بشأن “التزام واشنطن أمن حلفائها” وردع أي تغيير محتمل في الوضع القائم بقوّة السلاح.

وفي هذا الصدد، تشير معاهد الأبحاث العسكرية الأميركية إلى أن هذا الحضور المكثف كان يهدف أيضًا لتأكيد قدرة الولايات المتحدة على خوض عمليات بحرية متزامنة في أكثر من محور، وتحت ضغوط عملانية ممتدة، كما سجلت بعض هذه الحاملات حراكًا متعمدًا عبر مضيق تايوان أو بالقرب من جزر متنازع عليها لإعادة ضبط قواعد الاشتباك في المنطقة.

ثانيًا: ما دلالة القفزة التقنية “EMALS”؟
تعتمد “فوجيان” نظام إطلاق الطائرات الكهرومغناطيسي (EMALS) الذي يمثل طفرة تكنولوجية مقارنة بالنظم التقليدية “منجنيق البخار”. هذه التقنية تدعم إطلاق الطائرات المقاتلة الثقيلة، والطائرات من دون طيار، وتسمح بعمليات جوية أكثر كثافة واستمرارية؛ وللمرة الأولى تمتلك الصين القدرة على تنفيذ طلعات جوية متطورة بما يوازي حاملات الطائرات الأميركية من الفئة الأحدث مثل “جيرالد فورد”.

ويُعد نظام إطلاق الطائرات الكهرومغناطيسي (EMALS) نقلة تقنية كبرى لحاملات الطائرات الحديثة، إذ يعتمد على محركات تحريضية خطية تولّد مجالًا مغناطيسيًا يدفع عربة الإطلاق بسرعات دقيقة جدًا، بخلاف أنظمة المنجنيق البخاري التقليدية. يتيح EMALS تحكّمًا إلكترونيًا متقدّمًا في سرعة وقوة الدفع، ما يوفر مرونة أكبر في إطلاق طائرات بأوزان وأنواع مختلفة، سواء كانت مقاتلات ثقيلة أو طائرات مسيّرة خفيفة ويقلل الضغط الميكانيكي على هيكل الطائرة بشكل كبير.

وقد حققت الصين إنجازًا استثنائيًا في هذا المجال بتطويرها EMALS محليًا، وتركيبه وتشغيله فعليًا على حاملة “فوجيان”، لتصبح بذلك ثاني دولة في العالم تنجح في تملك وإدارة هذه التقنية المعقّدة بعد الولايات المتحدة. هذا الإنجاز اعتمد على هندسة عكسية مكثفة واستثمارات ضخمة في البحث العلمي والصناعة الإلكترونية، ما مكّن الصين من مجاراة واشنطن في أهم تقنية إطلاق بحري عرفتها العقود الأخيرة، وتحقيق قدرات وأداء منافس لحاملات الطائرات الأميركية الحديثة.

ثالثًا: التهديد للولايات المتحدة ومقارنة القوّة
رغم استمرار تفوق البحرية الأميركية عدديًا ونوعيًا، يُنظر إلى خطوة تسليم “فوجيان” باعتبارها مسارًا متقدمًا نحو تقليص الفجوة البحرية والتكنولوجية. فالولايات المتحدة تمتلك 11 حاملة طائرات، منها واحدة فقط مجهزة بنظام EMALS (“جيرالد فورد”)، بينما تمتلك الصين الآن حاملة تطابقها تقنيًا وإن كانت ذات قدرة حمل وبُعد عملي أصغر.

وبالنسبة لمفاعيل هذا التهديد جراء الخطوة الصينية الجديدة المتقدمة، يمكن النظر إلى أن “فوجيان” تُعد حجر الزاوية في التحول الإستراتيجي للقدرة البحرية الصينية، إذ تمثل نقلة نوعية في موازين القوى الإقليمية والدولية. تمنح هذه الحاملة البحرية الصينية إمكانيات عمل واسعة خارج المياه الساحلية التقليدية، لتشمل بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وغرب المحيط الهادئ، مع قدرة مستقبلًا على عمليات أوسع في المحيط الهندي.

في الواقع، ما يجعل “فوجيان” تهديدًا نوعيًا للولايات المتحدة وحلفائها هو الجمع بين التقنيات المتقدمة (نظام EMALS) وأساطيل جوية حديثة قادرة على تنفيذ طلعات قتالية مكثفة وقدرات استخباراتية ومهام إنذار مبكر، بما يسمح بفرض نفوذ عسكري في مناطق حيوية للتجارة العالمية وسلاسل الإمداد.

تدرك الإستراتيجية الأميركية هذا التهديد على أنه مقدمة لقدرة فعلية لدى بكين على نقل القوّة البحرية إلى أبعد من البحار المحيطة بها، بعد أن كان في السابق مقتصرًا على مبدأ التفوق البحري في غرب الهادئ أو ردع الصين في محيط تايوان.

ما السيناريوهات التي يمكن لـ “فوجيان” تنفيذها ضدّ تايوان؟
يمكن لحاملة الطائرات الصينية “فوجيان” تنفيذ عدد من السيناريوهات العسكرية ضدّ تايوان، تتراوح من العمليات المحدودة إلى مواجهات أشد تصعيدًا. وتشمل السيناريوهات المحتملة الآتي:

– فرض حظر جوي وبحري حول تايوان لمنع سيطرة الجزيرة على أجوائها ومياهها، مما يعطل حركة الطيران والملاحة البحرية ويضغط على الإمدادات والتجارة، خصوصًا عبر مضيق تايوان الحيوي الذي يُعدّ شريانًا مهمًا للسلاسل العالمية لتصنيع الرقائق الإلكترونية.

– دعم عمليات برية وجوية على الجزر التايوانية القريبة من الساحل الصيني مثل كينمن وماتسو، أو السيطرة على أرخبيل بينغو الذي يشكّل قاعدة إستراتيجية تتيح السيطرة على تايوان وتسهيل السيطرة الجوية والبحرية.

– تنفيذ ضربات دقيقة بالصواريخ والطائرات المقاتلة على البنية التحتية العسكرية للجيش التايواني، وتدمير مراكز القيادة والاتّصالات لإضعاف قدرة الدفاع، والتنسيق مع حصار بحري يهدف إلى عزل الجزيرة اقتصاديًا وعسكريًا.

– استخدام “فوجيان” كثقل عسكري ونفوذ يمتد تأثيره للضغط النفسي والدبلوماسي، مع تجنب غزو بري شامل، عبر تهديد واضح وحضور بحري قوي يقنع تايوان بقبول شروط الصين أو التفاوض من وضع ضعف.

– تمكين عمليات إنزال بحري محتملة مدعومة بتغطية جوية واسعة، تهيئ الأرضية لغزو تدريجي بهدف استعادة الجزيرة بالقوّة في حال استنفدت الخيارات الأخرى.

هذه السيناريوهات تبرز الدور المركزي لـ”فوجيان” كمفتاح للحفاظ على التفوق الجوي والبحري الصيني في مواجهة تايوان، وتوفير قدرة على فرض حصار أو دعم عمليات عسكرية متعددة الأبعاد ضمن إستراتيجية بكين تجاه الجزيرة.

أما في ما يخص مدى صلاحية “فوجيان” لتنفيذ جميع المهمات المذكورة، فالتقييم الأميركي يشير إلى أن الحاملة حديثة العهد وقد أتمت تجارب ناجحة على نظام الإطلاق الكهرومغناطيسي (EMALS)، والتكامل مع طائرات الجيل الخامس، لكنّها لا تزال في مرحلة اكتساب الخبرة التشغيلية الكاملة، خصوصًا عمليات التنسيق المعقّدة في مهام الحصار والعمليات متعددة الأبعاد. بالنتيجة، “فوجيان” على أهبة الاستعداد لكنّها بحاجة لمزيد من التجارب والنشاط الميداني لتكون قادرة على تنفيذ مهام عسكرية كبيرة ومتواصلة على مستوى المواجهات البحرية الشاملة.

على المقلب الآخر، تركز واشنطن على تعزيز التواجد البحري في غرب المحيط الهادئ عن طريق نشر حاملات طائرات إضافية وتنفيذ مناورات بحرية مشتركة مع الحلفاء كاليابان وأستراليا، كما عززت مبيعات الأسلحة لتايوان لتشمل أنظمة دفاع صاروخية متقدمة، وتحديثات تقنية لتحسين قدرات الدفاع الجوي والبحري. كل ذلك تهدف منه واشنطن إلى زيادة جاهزية قواتها البحرية وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر والتعاون الاستخباراتي، في محاولة للتقليل من فاعلية القدرات القتالية لـ”فوجيان” وفرض توازن قوة يعوق سيطرة الصين على المنطقة.

تايوان بدورها تعتمد على تطوير دفاعات ساحلية متقدمة، خصوصًا في مجال الصواريخ الموجهة المضادة للسفن والتعاون مع واشنطن لتحديث قدراتها في الحرب الإلكترونية والرقمية التي تستهدف تعطيل أنظمة الحاملات الصينية أثناء العمليات المحتملة. كما تستثمر في تحصين قواعدها البحرية والجوية وتعزيز استعدادها لعمليات مقاومة الحصار البحري أو البرمائي.

في المجمل، فإن الولايات المتحدة تتابع عن كثب تطوير القوّة الحاملة الصينية؛ حيث باتت مضطرة إلى مضاعفة نشاطها البحري وتحشيد السفن القتالية في المنطقة ومراجعة عقيدتها الدفاعية تحسبًا لتوسّع الاستهداف الجغرافي الصيني نحو المحيط الهندي، وحتّى بعض المضائق البحرية ذات الأهمية العالمية، مثل مضيق ملقا.

وهذا ما يخولنا القول إن الإجراءات الأميركية والتايوانية تهدف إلى إحداث توازن ردعي يحول دون استغلال “فوجيان” كقوة بحرية حاسمة دون مواجهة تدخلات عسكرية وتقنية متقدمة من الحلفاء، مع الإقرار بأن الصين تحقق خطوات سريعة في تقليص فجوة التفوق البحري الأميركي في المنطقة.

خلاصة القول، الحضور الصيني بقوة “فوجيان” يجعل بكين قادرة على استخدام نفوذها البحري كورقة ضغط إستراتيجية ليس فقط في صراعات بحر الصين الجنوبي وتايوان، بل أيضًا في قضايا إقليمية ودولية أخرى ترتبط بأمن سلاسل الإمداد العالمية، والعلاقات مع الهند وأستراليا ودول جنوب شرق آسيا. بهذه المعطيات، لم يعد التهديد الصيني مقتصرًا على “البيئة القريبة”؛ بل أصبح عاملًا رئيسًا في هندسة التنافس بين القوى الكبرى في المحيطين الهندي والهادئ.

د. محمد حسين سبيتي – المركز الديمقراطي العربي

البحرية الصينيةالصينفوجيان