زحمة استحقاقات تثقل القضايا الداخلية على وقع تسارع الحوادث والمستجدّات على المستويين المحلي والإقليمي والدولي، بدءاً من الحدث الجنوبي حيث تواصل قوات الاحتلال تعنّتها بعدم الانسحاب من القرى اللبنانية وتستقوي بالضغط الأمريكي لتمديد مهلة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار إلى 18 شباط المقبل، مروراً بالتعقيدات التي تضعها الأحزاب اليمينية والأخرى المنساقة خلف التوجيه الذي تحدّده السفارة الأمريكية في عوكر، وعنوانها المحاصصة الوزارية في حكومة المكلّف نواف سلام العتيدة، إلى سورية التي تتأهّب لدخول حقبة جديدة في تشكيل النظام السياسي المعقود لهيئة تحرير الشام بعد تنصيب أبي محمد الجولاني (أحمد الشرع) حاكماً متصرّفاً على البلاد بعد قرار حلّ مجلس الشعب وانضواء الميليشيات المسلّحة في مؤسسات الدولة وحظر الأحزاب السياسية على اختلاف أطرها الفكرية، وصولاً إلى ترقّب العالم للقرارات المتلاحقة التي يصدرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خاصة تلك التي تترك انعكاساتها على الاستقرار الدولي، وضمناً على ما يسمّى الشرق الأوسط.
على أن الحدث الميداني الأبرز الذي يختزن في مضامينه الميدانية ورسائله السياسية وتأثيراته الاجتماعية يتركّز في الطوفان الشعبي على محوري جنوب لبنان وقطاع غزة، ففيما تستمر خطوات تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وحكومة العدو بالتزامن مع عودة مئات آلاف الفلسطينيين إلى مناطق شمال القطاع التي انسحبت منها قوات الاحتلال، يعتصم أهل المقاومة أمام مداخل القرى التي لم ينسحب منها العدو في القطاع الشرقي من الجنوب، في ظل إصرار أكيد على استكمال فصول الانتصار الذي حققته المقاومة خلال معركة “أولي البأس”، وتفرض هذه الاستحقاقات تسجيل مجموعة من المؤشرات والملاحظات أهمها:
- خرق حكومة العدو اتفاق وقف إطلاق النار بتغطية أمريكية وبـ “تسليم” رسمي للموقف الذي ألزمت واشنطن به لبنان استجابةً للذرائع الإسرائيلية المبنية على تفسير مشوّه للقرار 1701، والذي احترمت المقاومة تطبيق بنوده، وهذا المستجدّ – وفق ما يراه مراقبون – يعدّ محاولة واضحة لفرض أمرٍ واقع ميداني وسياسي يشرّع للعدو احتلالاً منعته المقاومة طيلة 66 يوماً من الحرب، ممّا يدفع العهد الجديد برئاسة العماد جوزف عون إلى القيام بخطوات جدّية فاعلة انسجاماً مع الوعد الذي قطعه على نفسه في خطاب القسم الرئاسي بتحرير كل شبر من الأرض اللبنانية المحتلة وتمكين الناس من العودة إلى قراهم تمهيداً للبدء بإعادة إعمار المناطق التي دمّرها العدوان الصهيوني.
ويحذّر المراقبون من أن السماح بتأجيل موعد الانسحاب سيشجّع العدو على التملّص مرّة أخرى من الاتفاق ما يعدّ “دعسة ناقصة” في سياق العهد الجديد ولا يبشّر بالخير بالنسبة للأداء السياسي إزاء العلاقة مع الأمريكي الحاضن للكيان الصهيوني، وقد يضعف الثقة من قبل شريحة كبيرة من الشعب اللبناني بإمكانية تصدّيه للحفاظ على أمنهم وسلامتهم واستقرارهم وحقّهم بالعيش الكريم، ويطرح شكوكاً حول عودة سياسة التمييز بين فئات الشعب على مستوى المواطنة والانتماء.
- إن رفض الاحتلال تنفيذ القرار 1701 ووضعه القيود والحواجز أمام تمكين الجيش اللبناني من الانتشار في القرى اللبنانية الحدودية وقتل جنوده وضرب مواقعه وآلياته على مرأى ومسمع من قوات الطوارئ الدولية يعكس النظرة الصهيونية الفوقية إزاء لبنان حكماً وشعباً ومؤسسات، وضربه عرض الحائط ما يسمّى المجتمع الدولي وجمعية الأمم المتحدة التي مزّق المندوب الصهيوني فيها ميثاقها محتقراً ما ومن تمثّل دون أي وازع أو رادع، وهذا الأمر يطرح أيضاً السؤال عن قيمة لبنان دولةً وكياناً وقراراً سيادياً أمام المشرحة الأمريكية والدولية، وقدرته على اتخاذ القرار بالاستقلال عن الضغوط الخارجية التي لم تأتِ على لبنان إلا بالفوضى وانعدام الأمن وغياب الاستقرار الداخلي.
وعلى خلفية هذا المعطى تحرّك الناس على الأرض في اجتياح مدني، إيماناً منهم بأن الشعب – كونه أحد أسس تكوين الدولة – قادر على كسر الأمر الواقع وفرض معادلة التحرير دون الذهاب لاحتمال انزلاق الوضع نحو تجدّد المواجهة الميدانية عسكرياً على الرغم من جهوزية المقاومة الكاملة لأي احتمال وفق ما تراه مناسباً على حد تعبير الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، فشكّل الناس درعاً للجيش الذي بادر إلى الالتحام مع الشعب والتقدّم معه ومن خلفه وأمامه لإجبار العدو على الانسحاب التدريجي وصولاً إلى إتمام طرده من الأراضي اللبنانية، وجاء هذا المستجدّ بمثابة تطبيق فعلي لمعادلة الشعب والجيش والمقاومة، والتي تترجم ركائز قيام الدولة واقتدارها وسيادتها الحقيقية.
- أسفرت المستجدّات الميدانية والاستحقاقات السياسية عن انكشاف كلّي لمواقف الأطراف الداخلية، ولئن كان كثير منها معروف الخلفيات والأهداف و”التطلّعات” إلا أن معركتي “طوفان الأقصى” في قطاع غزة و”أولي البأس” في الجنوب أسقطت ما تبقّى من أوراق التوت التي كان يتستّر بها بعضهم، قبل أن يأتي الإيعاز الأمريكي بشنّ الحملات المسعورة على المقاومة وأهلها وبيئتها، ووصلت إلى حد تحريض العدو على ضرب المناطق والمؤسسات والتجمّعات الإنسانية، ولعبت دور المخبر الميداني والعميل الذي يوفّر للعدو أهداف أجندته العدوانية.
ويلفت المراقبون إلى خطورة الخطاب الذي يعتمده “سياديو عوكر”، حيث إنه تجاوز حدّ الخلاف السياسي ليصل إلى مرحلة الفرز والتصنيف بين فئات الشعب اللبناني، ويعكس في الواقع انقساماً عمودياً قد لا يتيح مستقبلاً أي إمكانية للالتقاء أو التقاطع، وشبّه المراقبون هذه الحال بلاعب البوكر الذي يقامر بأمواله كلّها معتمداً على احتمال حيازة الخصم الأوراق الخاسرة، ولكن – يضيف هؤلاء – حالة لبنان لا تحتمل المقامرة الغبيّة لأنها تعتمد على ظروف آنية وتقييمات لحظية ما تلبث أن تتغيّر وسوف تثبت الأيام خيبة الرهان عليها، ولن يستفيد منها سوى العدو ولن تجرّ على لبنان سوى المزيد من التشرذم والفوضى في وقت نحن اليوم بأمس الحاجة إلى التلاقي والتعاون البنّاء.
والحال هذه فإن رهان بعض اللبنانيين على “أحلام” نتنياهو في تنفيذ مشروع “إسرائيل الكبرى” وأنه سيؤدي إلى تغيير في التركيبة السياسة والعسكرية والديمغرافية في لبنان سيأخذ البلد إلى منعطفات خطرة، فهؤلاء الذين يعملون للتضييق على خيارات المقاومة وبيئتها وأهلها وعزل الشيعة كمكوّن رئيسي في سيرورة الكيان اللبناني يبنون مواقفهم اليوم لاستثمارها في موقعة الانتخابات النيابية في العام 2026 ويعتقدون بأن الظروف الراهنة ملائمة للذهاب في هذا الاتجاه الانتحاري، وهنا تتبدّى الرسالة الناصعة التي يكتبها أهلنا المقاومون مع الجيش في مواجهة العدوان الصهيوني، بأن شعباً لا ترهبه الغارات والمدافع ولا القتل والتدمير متمسّك بوطنيّته وأرضه وانتمائه وخياره الأكيد مقاومة.
محمد الحسيني – موقع العهد