تتتالى المؤشّرات إلى وجود تحوّل جوهري في رهانات وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في سعيه للإمساك بالسلطة، عبر الانتقال من الاعتماد كلّياً على الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى الانفتاح على قطر لتهدئة المعارضة الإسلامية، وخاصة «الإخوانية»، في الداخل، وعلى إيران لمحاولة توفير أجواء إقليمية مناسبة لانتقال السلطة في المملكة، لتأتي الإجراءات الأخيرة ضدّ الإمارات كدليل إضافي على بوادر انعطافة سعودية تضع أبو ظبي في شبه عزلة عربية. يدرك ابن سلمان أن التطبيع مع إسرائيل مرفوض شعبياً في بلاده، ويعرف كذلك أنه شخصياً مكروه لدى الأميركيين في الإدارة والكونغرس والصحافة، وحتى بين المواطنين العاديين من المهتمّين بالسياسة، على خلاف ما كانت عليه الحال خلال عهد إدارة دونالد ترامب السابقة الحليفة له. وقد ساهم اهتزاز وضعه، نتيجة افتقاره للمشروعية بعد إزاحة من كانوا يتقدّمون عليه في ترتيب الخلافة ضمن عملية انقلابية أحدثت جروحاً غائرة داخل أسرة آل سعود، في إبطاء خطى التطبيع، العلنية على الأقلّ، كثيراً. كما أن التركيبة السكّانية للسعودية التي يغلب عليها المواطنون والمقيمون العرب، مِمَّن يُعلون الاعتبار الديني، لا تشجّع على الذهاب بعيداً في هذا المسار، بخلاف الإمارات، حيث المواطنون أقلّية لا تتجاوز العشرة في المئة من السكان، بينما النسبة الأكبر من المقيمين هي للآسيويين، ما يجعل أيّ ضغوط داخلية على النظام أمراً غير مرجح. كما أن السعوديين أكثر طلاقة في التعبير عن رفضهم للعلاقات مع العدو، من الإماراتيين الذين يخشى معظمهم مخاطرات من النوع المذكور، نظراً لعدم تساهل النظام مع أيّ تعبير عن رأي سياسي، مهما كان نوعه. ولذا، تجاوَز غلوّ النظام الإماراتي في التطبيع مع الاحتلال كلّ حدود، حتى صار كرقص العاهرة بين عساكر العدو في زمن الحرب، ليعكس ارتماءً إماراتياً في حضن تل أبيب طلباً لحماية إسرائيلية – أميركية للنظام، الخائف دائماً من انتقام، بعد تورّطه في صراعات دامية مزّقت عدداً من الدول العربية.
ولي العهد السعودي يعمل، في المقابل، على هدف واحد متمثّل في البقاء في السلطة. وهو ما عاد يرى فائدة لخدمة هذا الهدف، من العلاقة الوثيقة مع ابن زايد، الذي ورّطه في صراعات لم يكن يحتاج إليها، بل صار يَعتبر أنها تسحب ممّا تبقّى له من رصيد، بعدما فشلت تلك المغامرات بالجملة. ويؤشّر الخلاف المتصاعد حالياً إلى صراع واضح على الدور، خاصة أن محمد بن زايد يعتبر نفسه مهندس السياسة التي أوصلت محمد بن سلمان إلى ولاية عهد المملكة، ناسباً إلى نفسه إقناع ترامب بدعم تولّي الأخير السلطة في السعودية. كذلك، استاءت الإمارات كثيراً من تسارع المصالحة السعودية مع قطر والانفتاح على تركيا أملاً في نيل مساعدتهما لتحييد المعارضة «الإخوانية» في الصراع على السلطة بين أفراد أسرة الحكم في المملكة. ولعلّ من أكثر المؤشرات دلالة في هذا السياق، ظهور رئيس المكتب السياسي السابق لحركة «حماس» خالد مشعل، أول من أمس، في مقابلة مع قناة «العربية»، حيث دعا الرياض إلى فتح أبواب العلاقات مع حركة «حماس». وبخلاف ما يعتقده كثيرون، لا تشعر الرياض بحساسية خاصة تجاه «الإخوان»، مثلما هي حال الإمارات، فهي لم تقطع العلاقة معهم نهائياً، وإن كانت تشعر بتهديد كلّما اكتسبوا قوة زائدة، كما حصل في السنوات القليلة الماضية، حين عمد ابن سلمان إلى سجن رموزهم من أصحاب الشعبية العالية في السعودية والعالم العربي عموماً، من أمثال سلمان العودة وعوض القرني وغيرهما، على رغم أن هؤلاء ساهموا في عهد الملك عبد الله في درء أيّ تحرّكات كان يمكن أن تحصل في السعودية خلال ما سُمّي «الربيع العربي».
التشقّق في الحلف الإماراتي – السعودي كان قد بدأ في الظهور أوّلاً في حرب اليمن، عندما سحبت الإمارات معظم قواتها المشاركة في الحرب، تارِكة السعودية تُصارع وحدها في الرمال المتحرّكة. وهي خطوة أعقبت اشتغالاً لسنوات على تمديد أذرعٍ عسكرية، سرعان ما بدأت بينها وبين تلك الموالية للرياض حفلات قتال دورية، ليس ما شهدته محافظة أبين (جنوب) خلال الأيام الماضية إلا أحدث حلقاتها. هذا السياق التدريجي لتدهور العلاقات بلغ أخيراً نقطة انفجار، بعدما اتُّخذت خلال الأيام الماضية إجراءات متبادلة نمّت عن خلافات عميقة، أبرزها الخلاف النفطي في «أوبك»، التي شهدت تنازعاً سعودياً – إماراتياً علنياً ربّما يكون الأوّل من نوعه. ومن بين الإجراءات التي تمّ اتّخاذها أيضاً تعليق الإمارات جميع الرحلات إلى المدن السعودية، بعد منع المملكة مواطنيها من زيارة الإمارات، بداعي تفشّي متحوّر «دلتا» من فيروس «كورونا»، وعدم إقرار السعودية اللقاح الصيني الذي اعتمدته أبو ظبي. ثمّ تلى القرار المذكور استثناء الرياض السلع المنتَجة في المناطق الحرّة، والتي تمثّل أحد المحرّكات الرئيسة لاقتصاد الإمارات وخصوصاً دبي، من الإعفاءات الضريبية الخليجية، باعتبارها ليست سلعاً محلّية الصنع. كذلك، اعتُبر تهديد السعودية بقطع العقود الحكومية المغرية مع الشركات المتعدّدة الجنسيات، إذا لم تنقل مقرّاتها إلى الرياض، استهدافاً لدبي حيث تقام المقرّات الرئيسة لمعظم هذه الشركات.
لأربعين عاماً، ظلّت الإمارات تُصوّت في «أوبك» كما تريد السعودية، بما في ذلك عندما كانت تقع خلافات نفطية بين السعودية ودول أخرى في «مجلس التعاون الخليجي». ولطالما كانت السعودية هي التي تدفع في اتجاه زيادة الإنتاج لخفض الأسعار، بطلب أميركي، فهل أصبحت الإمارات هي الوكيل الجديد الذي يلبّي الطلبات الأميركية في ضوء الخلافات المعروفة بين محمد بن سلمان وإدارة جو بايدن؟ يرى مراقبون أن ابن سلمان الذي واجه مشكلات اقتصادية نجم عنها تململ ضدّ حكمه، يريد سعر نفط عند 80 دولاراً للبرميل، حتى يتمكّن من ترسيخ هذا الحكم باستخدام المال، وهو ما يبدو أنه يتّجه إلى تحقيقه مع وصول السعر إلى 77 دولاراً للبرميل. وإذا قامت «أوبك» بتلبية الطلب الإماراتي بزيادة حصتها من الإنتاج 600 ألف برميل يومياً، تضاف إلى الزيادة التي أقرّتها المنظمة بواقع مليوني برميل يومياً، فإن هذا قد يؤدي إلى تعويم سوق مشبعة بالفعل وتدهور سريع للأسعار. وتبلغ حصة الإمارات من صادرات «أوبك» حالياً 2.059000 برميل بينما تبلغ طاقتها الإنتاجية أكثر من 4 ملايين برميل، ويُتوقّع أن ترتفع إلى 5 ملايين برميل في عام 2030.
محمد إبراهيم – الأخبار اللبنانية