لا يعني الصراع بالضرورة وجود مواجهات عسكرية بين الدول، كما أن تجنب القتال الفعلي لا يعني أيضاً تحقيق السلام، وهو ما يتسق مع مقولة “صن تزو” قبل أكثر من ألفي عام، بأن “الفن الأسمى للحرب هو إخضاع العدو من دون قتال”. انطلاقاً من ذلك، يحلل الخبير المعروف أنتوني كوردسمان اتجاهات الصراعات الراهنة على الصعيدين الإقليمي والدولي في ورقة تحليلية نشرها في ديسمبر 2022 بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية CSIS، تحت عنوان “العالم في أزمة: حروب الشتاء 2022-2023”.
يستكشف كوردسمان في ورقته أبعاد ومستقبل المستويات المتزايدة من المخاطر والصراعات الدولية والإقليمية، ويركز على المستوى الحالي للمخاطر السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تشكل العالم في شتاء 2022-2023، كما يدرس أيضاً الاتجاهات الاستراتيجية الرئيسية والتطورات العسكرية.
الصراعات الدولية
يشهد النظام الدولي العديد من الصراعات بين القوى الكبرى، لا سيما بين الولايات المتحدة وأوروبا من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى، وتظهر المؤشرات كافة أن هذه المواجهات تؤثِّر على العديد من مناطق العالم، كما أنها تشكل تجسيداً لمقولة “صن تزو” في إخضاع العدو من دون قتال، فقد أصبحت المواجهات بين القوى الكبرى انعكاسات للحروب السياسية والاقتصادية لتحقيق أهداف استراتيجية من دون قتال مباشر، ومن أبرز حروب الشتاء الدولية، ما يلي:
1) “حرب الشتاء” في أوكرانيا: باتت هذه الحرب تشكل مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وروسيا من جهة أخرى، وقد تصاعدت وتيرة هذه المواجهة حتى أوائل شتاء 2022 – 2023، وقد يستمر ذلك بشكلٍ ما لسنوات قادمة، ويبدو أن الحرب الروسية- الأوكرانية، التي بدأت في فبراير 2022، أصبحت حرب استنزاف على الأرض. وعلى الرغم من كون هذه الحرب تعكس صراعاً مسلحاً بين موسكو وكييف، فإنها تشير إلى مساعي الولايات المتحدة والغرب إلى إظهار قدرتهما على إخضاع العدو من دون قتال مباشر.
وما لم تتوقف الهجمات الروسية أو تُمنح أوكرانيا مجموعة أكبر من الدفاعات الصاروخية والجوية، ومستويات مستمرة ومتزايدة من المساعدات المدنية، فإنها ستخلق مشاكل متزايدة وستؤدي إلى زيادة الفقر إلى مستويات خطيرة. وفي أسوأ الحالات بالنسبة لأوكرانيا، قد تؤدي مثل هذه الهجمات الروسية إلى الحد من الدعم الشعبي الأوكراني الداخلي للحرب، وتمديد طول الحرب وتكلفتها إلى الحد الذي تقلل فيه الدول الخارجية مساعداتها أو تنهيها، وتقلل بشكلٍ حاد من الخسائر الروسية.
وستعمل التكتيكات الروسية الجديدة والضربات الصاروخية للبنية التحتية الأوكرانية على إطالة أمد القتال وشدته، ورفع تكلفة المساعدات العسكرية والمدنية والتعافي بعد الحرب. كما أن هذه التكتيكات قد تجبر أوكرانيا على التنازل عن تسوية أو خوض حرب منهكة إلى أجل غير مسمى في المستقبل، وتبين لدول الناتو الأوروبية -خاصة تلك القريبة من الحدود الروسية- أن روسيا لا تزال تمثل تهديداً كبيراً لهم بغض النظر عن المشاكل التي كشفها القتال في قواتها البرية.
2) “حرب الشتاء” بين الغرب وروسيا: لا يخوض الغرب فقط حرباً عسكرية بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، بل يشن حرباً اقتصادية وسياسية على موسكو على صعيد الطاقة والعقوبات الاقتصادية، بينما ترد الأخيرة بهجمات مماثلة، ويبدو من المؤكد أن هذا الشكل من الحرب الاقتصادية والسياسية سيتصاعد طوال فصل الشتاء وقد يستمر بعد ذلك لسنوات قادمة.
وحتى الآن، لا يوجد منتصر واضح، ولا يبدو أن أياً من الجانبين من المرجح أن يبرز كفائز في المستقبل القريب. من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلل بشدة من أهمية رد الفعل الاقتصادي والسياسي للدول الغربية، مع ذلك، تمكن من تصعيد جهوده القتالية. في المقابل، أخطأ الغرب في تقدير مقاربته الأولية للحرب، فقد بدأت القوى الغربية في تنفيذ عقوبات اقتصادية وسياسية كبيرة ضد روسيا مع بداية الحرب في أوكرانيا.
مع ذلك، يبدو أن المخططين الغربيين قد قللوا بشدة من قدرة موسكو على الصمود في مواجهة العقوبات، ولم يتوقعوا التأثير الاقتصادي المتصاعد الذي قد تحدثه استجابة روسيا على إمدادات الطاقة الأوروبية وصادرات الغذاء العالمية. لقد حقق الغرب بعض النجاح، لكن ليس النجاح الذي توقعه الكثيرون. ولا توجد طريقة واضحة للتنبؤ بالتأثير المستقبلي لحرب الطاقة هذه خلال بقية شتاء 2022-2023، أو كيف يمكن أن تتطور في الأشهر والسنوات التالية، مع ذلك، فإن تأثير الحرب على تدفق صادرات الطاقة الروسية كان كبيراً بالفعل، وقد يؤدي إلى تغييرات استراتيجية كبيرة، فقد انخفضت الصادرات الروسية بشكل كبير إلى الاتحاد الأوروبي، لكن روسيا ستحقق زيادات كبيرة في صادراتها إلى الدول النامية في آسيا.
3) “حرب الشتاء” في تحديث القوة العسكري التقليدية: أظهرت الحرب في أوكرانيا أن القوات العسكرية الروسية التقليدية لديها نقاط ضعف خطيرة، وساعدت في قيادة استراتيجية جديدة وأكثر استباقية للناتو، كما قادت الدول الغربية الرئيسية مثل ألمانيا وبريطانيا إلى الدعوة إلى زيادات كبيرة في الإنفاق العسكري، وأدت أيضاً إلى زيادة تركيز الولايات المتحدة على حلف شمال الأطلسي في وقت تعتبر فيه الصين التهديد الرئيسي لها، بل وتبني استراتيجية تدعو إلى بذل جهود كبيرة في الإصلاح العسكري والتحديث. في المقابل، كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية أن معظم دول الناتو قد استهانت بالتهديد الروسي وحصدت “مكاسب سلام” مفرطة من حيث التخفيضات في جهودها الدفاعية.
وسيكون التوازن المستقبلي للقدرة العسكرية الشاملة مدفوعاً بالقيود المالية لما يمكن أن تنفقه كل من روسيا والغرب على تحسين وتحديث قواتهما العسكرية التقليدية، وسيكون للحرب الاقتصادية الحالية بين الطرفين تأثير كبير على إنفاقهم على المدى القريب، فالتحسينات في القدرة العسكرية التي يجب على الجانبين إدخالها تحتاج إلى إنفاق نسب أعلى من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي على القوات العسكرية على مدى عقد أو أكثر، وسيؤدي هذا حتماً إلى زيادة المنافسة على الإنفاق العسكري مقابل الإنفاق على البرامج والاحتياجات المدنية.
وينطوي هذا الإنفاق على تحديات كبيرة للغرب وروسيا، وقد كانت تكلفة الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا للدول الغربية وشركائها الاستراتيجيين بالفعل أعلى بكثير مما توقعه قادتهم السياسيون في صياغة خططهم الأولية للمساعدة العسكرية. كما أدت الزيادات في أسعار الطاقة والواردات الأخرى إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات حرجة، وكانت هناك بالفعل دعوات سياسية لتقليل المساعدات لأوكرانيا ومؤشرات سياسية أوسع نطاقاً على أن دول الناتو تقلل من خططها لتحديث قواتها وتحسينها.
4) “حرب الشتاء” النووية: تتزايد تحديات السلام والاستقرار من خلال شكل آخر من أشكال “حرب الشتاء”، فحتى قبل بدء حرب أوكرانيا، عادت القوى الكبرى إلى سباق التسلح النووي، وكانت الصين تبرز كقوة نووية كبرى، وأصبح مستقبل الحد من الأسلحة النووية أكثر غموضاً، فقد انخرطت روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين في جهود تحديث نووية كبرى قبل وقت طويل من بدء حرب أوكرانيا.
وهناك منافسة رئيسية من ثلاث دول في تحديث الأسلحة النووية، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما أن هنالك خطراً متزايداً من إحياء المنافسة النشطة في نشر القوات النووية كأشكال من النفوذ العسكري. ناهيك عن خطر أعلى -وإن كان لا يزال محدوداً- من استخدامهم في القتال الفعلي، هذه المنافسة جعلت مستقبل الحد من التسلح غير مؤكد إلى حدٍ كبير.
5) “حرب الشتاء” في الصين: تمتد مستويات التوتر والمواجهة بين الصين والولايات المتحدة إلى ما هو أبعد من التحولات في القوات النووية والاستراتيجية، حيث تواجه واشنطن وشركاؤها الاستراتيجيون الآن نمواً اقتصادياً صينياً إلى مستويات قد تضاهي أو تتجاوز حجم الاقتصاد الأمريكي، كما تقوم بكين ببناء قوى عسكرية تقليدية بطرق تحول المنافسة مع الولايات المتحدة إلى المواجهة.
ومن غير المحتمل حدوث صدام كبير بين بكين وواشنطن على المدى القريب وقد لا يحدث أبداً، فقد أظهرت الصين بالفعل كيف يمكنها التركيز بشكل جيد على أشكال الحرب التي تعتمد على القوة الاقتصادية والنفوذ العسكري بدلاً من القتال، بيد أن هذا لا يعني استبعاد خطر نشوب نزاعات في مكان آخر في المحيط الهادئ أو آسيا بين واشنطن وبكين.
ومن المحتمل أيضاً أن تخرج روسيا في نهاية المطاف من الحرب في أوكرانيا في حاجة أكبر لشركاء استراتيجيين خارجيين رئيسيين، ويمكن للصين وروسيا الاستفادة من شراكة أقوى في الجوانب الاستراتيجية لحروبهما في الطاقة والاقتصاد والتكنولوجيا، وتوظيف قوتهما العسكرية في حالة حدوث أي صراع إقليمي أو دولي خطير.
الصراعات الإقليمية
هناك العديد من الصراعات والأزمات المتفاقمة بين القوى الإقليمية والمحلية، حيث تشير التقديرات إلى أن الدول الأخرى تنخرط بشكلٍ متزايد في أشكال مماثلة من النزاعات الإقليمية والمحلية، أو تنخرط في المواجهة بين القوى الكبرى، كما تُظهر هذه التقديرات أن العديد من هذه الدول تفتقر إلى الحوكمة الفعالة والتنمية الاقتصادية الكافية وتتجه نحو صراعات داخلية ومحلية وإقليمية جديدة، ومن أبرز حروب الشتاء الإقليمية ما يلي:
1) “حروب الشتاء” في الشرق الأوسط وأفريقيا: تعتبر ليبيا مركزاً رئيسياً لعدم الاستقرار في شمال أفريقيا، كما تعد سوريا وإيران مراكز رئيسية لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، بينما لا يزال استقرار العراق غير مؤكد، ويبدو من المرجح أن السودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال واليمن ستظل بؤراً ساخنة أو مناطق صراع إضافية على الأقل في المدى القريب أو المتوسط.
وتشير التقديرات إلى أن دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط تلعب دوراً رئيسياً في عمليات نقل الأسلحة العالمية وتشكل مركزاً للعديد من سباقات التسلح الكبرى، فيما تعاني كثير من دول الشرق الأوسط من مشاكل استقرار داخلي أو “حروب شتوية على شكل صراع أهلي، لكن تبقى إيران هي أخطر تهديد إقليمي حالي في المنطقة.
ولا تزال إسرائيل القوة النووية الوحيدة في المنطقة، كما أن إيران هي أيضاً قوة نووية محتملة تسعى لكسب النفوذ السياسي الإقليمي عبر هذه القوة أو التصعيد باستخدامها، وقد زودت إيران روسيا بالصواريخ والطائرات من دون طيار لحربها في أوكرانيا، وكانت هناك تقارير تفيد بأن إيران قد تشكِّل روابط أمنية واقتصادية مع روسيا والصين، كما تتمتع إيران بعلاقات عسكرية كبيرة مع سوريا والعراق واليمن وحزب الله في لبنان، وقد تكون قادرة على تشكيل تحالف أمني يهدد الاستقرار الإقليمي.
2) “حرب الشتاء” في آسيا والكوريتين: تشكل آسيا مصدراً آخر لـ”حروب الشتاء” الخطيرة، ورغم أن الصراع الأفغاني قد انتهى، لكن طالبان لا تزال قمعية بشكلٍ متزايد ولم تُظهر بعد قدرتها على الحكم بفعالية، كما تمثل منطقة المحيط الهندي في بقية آسيا مجموعة مستمرة من مشاكل الأمن الإقليمي والداخلي، فقد اشتبكت الصين مؤخراً مع الهند، كما تتسلح الهند وباكستان لجولة أخرى محتملة من الحرب، والتي يمكن أن تشمل استخدام الأسلحة النووية.
لكن، يبدو أن أحد أبرز المخاطر الحالية لصراع كبير في المنطقة هو ارتفاع مستوى التوتر وسباق التسلح بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، والذي يمكن أن يتصاعد بسهولة ليشمل الولايات المتحدة واليابان، وربما روسيا والصين. وإلى جانب امتلاك كوريا الشمالية للأسلحة النووية، تحذر بعض التقديرات من أنها بدأت نوعاً جديداً من “حرب الشتاء” من خلال زيادة إطلاق الصواريخ بشكل حاد.
ختاماً، تُظهر المؤشرات أن العالم لا يتجه نحو السلام والاستقرار، حيث يواجه سلسلة من “حروب الشتاء” المحتملة والمستمرة في 2022-2023 والتي قد تتصاعد أو لا تتصاعد إلى صراع عسكري، لكنها تظل حروباً فعلية على المستويين السياسي والاقتصادي، وتنذر التجارب التاريخية من أن “حروب الشتاء” التي تخوضها القوى الكبرى قد تتصاعد بشكل غير متوقع تماماً مثل الحروب السابقة، فقد أثبتت الحربان العالميتان الأولى والثانية مدى سهولة التصعيد إلى صراعات عالمية.
Anthony H. Cordesman, A World in Crisis, The Winter Wars of 2022-2023, Center for Strategic and International Studies (CSIS), Dec 2022.
نقلاً عن موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة