سوريا وتركيا والبحث عن حل وسط

شكل الاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع ورؤساء المخابرات لروسيا وتركيا وسوريا، الذي عقد في موسكو في 28 كانون الأول، حدثًا مهمًا في التغلب على أكثر من 10 سنوات من العداء بين دمشق وأنقرة، الذي نشأ خلال الحرب السورية. لذلك، قد يتحول عام 2023 إلى عام اختراق للتسوية السورية، واستئناف عملية السلام وتقريب الشعب السوري من السلام، وتقريب أنقرة ودمشق من استعادة العلاقات، بحسب كيريل سيميونوف، الخبير في شؤون النزاعات في الشرق الأوسط.

وكتب سيميونوف في موقع “المجلس الروسي للشؤون الدولية”، أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كان اقترح خلال محادثة هاتفية مع الرئيس فلاديمير بوتين في 15 كانون الأول، عقد اجتماع لقادة تركيا وروسيا وسوريا، وقبل ذلك اجتماع لوزارء الدفاع والخارجية وأجهزة المخابرات. وبحسب إردوغان: “لا توجد عواطف في السياسة”، في إشارة إلى الطبيعة المعقدة لعلاقته مع الرئيس بشار الأسد.

وبدعم ووساطة الجانب الروسي، الأمر الذي كان له الأثر الضروري على دمشق، اتخذت رغبات الرئيس التركي شكلاً حقيقياً وتحولت إلى خطة عمل. وقد تم بالفعل تنفيذ الخطوة الأولى من خارطة الطريق العامة هذه حتى الآن، من خلال الإجتماع الذي عقد في موسكو لوزراء الدفاع وأجهزة المخابرات في روسيا وسوريا وتركيا.

والخطوة الثانية، هي اجتماع وزيري خارجية سوريا وتركيا، والذي ما زال قيد النقاش. ولم يستبعد وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو إجراء المحادثات في أواخر كانون الثاني أو أوائل شباط. لكن التقارير الأخيرة من المسؤولين الأتراك تشير إلى تاريخ لاحق – نهاية شباط.

الخطوة الثالثة والأكثر أهمية نحو تطبيع العلاقات بين البلدين، هي قمة رؤساء الجمهوريتين العربية السورية والتركية. إلى حد كبير يعتمد ذلك على نتيجة الاجتماع بين وزراء خارجية البلدين.

في الوقت نفسه، إذا لم يتم التواصل المباشر بين إردوغان والأسد، فإن عملية استعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق لا يزال بإمكانها المضي قدماً بنجاح. لهذا، يجب أن تصبح الاجتماعات بين وزراء الدفاع والخارجية ورؤساء المخابرات في البلدين دائمة. ويشير بيان صادر عن وزارة الدفاع التركية إلى أن مثل هذا الاحتمال واقعي للغاية.

من ناحية أخرى، قد تكون الخطوة الأولى نحو إعادة العلاقات بين سوريا وتركيا هي الخطوة الوحيدة في المستقبل المنظور، نظراً لوجود العديد من العوامل التي يمكن أن تعرقل المزيد من عملية التطبيع، كموقف الولايات المتحدة، الذي يمكن أن يؤثر على تركيا، وتلبية بعض الرغبات التركية فيما يتعلق، على سبيل المثال، بإمدادات الأسلحة.

كما أن تعطل جهود التقريب بين سوريا وتركيا قد يحدث أيضاً بسبب المطالب التي أعرب عنها الجانب السوري، وهو أمر مستحيل بالنسبة لأنقرة في الوقت الحالي كشرط لبدء إعادة العلاقات.

متطلبات ومصالح دمشق
وقال سيميونوف إن دمشق تشترط لإطلاق عملية تطبيع العلاقات مع تركيا تنفيذ بعض الشروط. لذلك، وكخطوة أولية لاجتماع وزراء الخارجية، تمت الدعوة لانسحاب جميع القوات التركية من شمال سوريا.

ومع ذلك، فإن مثل هذه الإنذارات بشأن إنهاء الاحتلال التركي، لا يمكن قبولها من قبل تركيا، التي تعتبر أن وجود قواتها في إدلب السورية أمر مشروع، لأن قرار إرسالها إلى هذه المنطقة لإنشاء نقاط مراقبة، جاء في الجولة السادسة من المفاوضات في أستانة. وحتى الآن لم تتنازل أي دولة من الدول المشاركة في “ثلاثية أستانة” التي تضم روسيا وتركيا وإيران عن هذا البند. ووفقاً للاتفاقيات، فإن وجود القوات المسلحة للدول الثلاث في منطقة خفض التصعيد، يتم تمديده تلقائيًا.

بالإضافة إلى إدلب، فإن الأراضي السورية التي يمكن اعتبارها محتلة من قبل تركيا هي منطقة شمال حلب ومناطق العمليات التركية “غصن الزيتون” و “درع الفرات” و”مصدر السلام”. وقد شنت القوات التركية عمليات في هذه المناطق ضد “كرد سوريا” وداعش.

لكن بعد انتهاء الحملات العسكرية، انسحبت القوات التركية، وتسيطر حالياً على هذه المناطق قوات المعارضة السورية مما يسمى بـ”الجيش الوطني السوري”. بدلاً من ذلك، تتحدث أنقرة عن “الحماية” التركية لمناطق المعارضة هذه، ولا تعتبر ذلك احتلالًا مباشرًا.

ومع ذلك، تظهر القوات التركية في هذا الجزء من الأراضي السورية وتنشر نقاط مراقبة مؤقتة. والغرض من هذا التواجد هو تسيير دوريات مشتركة في المنطقة الحدودية مع الجيش الروسي، وهو ما نصت عليه مذكرة سوتشي.

في الوقت نفسه، ومن وجهة نظر الحكومة السورية، لا توجد معارضة في هذه المناطق، ولا يوجد سوى مرتزقة أتراك. هذا الموقف صحيح في بعض النواحي، لأن “الجيش الوطني السوري” موجود بسبب التمويل التركي. ومع ذلك، فإن مسألة مستقبل هذا “الجيش”، وكذلك مستقبل المعارضة بأكملها، أكثر تعقيداً بكثير ولا يمكن حلها ضمن مفهوم “لا للاحتلال التركي”.

علاوة على ذلك، فإن تطبيع العلاقات مع أنقرة يجلب أيضاً فوائد غير مشروطة للحكومة السورية.

على وجه الخصوص، ستفتح استعادة العلاقات السورية التركية “نافذة أمل” لإعادة الشرعية للحكومة السورية على الساحة الدولية. فتركيا ليست فقط عضواً في الناتو، ولكنها أيضاً عنصر مؤثر في الشرق الأوسط وحتى خارج المنطقة، وقد تصبح استعادة العلاقات مع الجمهورية العربية السورية حافزاً لدول أخرى لتحذو حذو أنقرة.

وقد يكون من بين هؤلاء قطر وحكومة الوحدة الوطنية الليبية- الحلفاء المقربين لتركيا. وهذا ينطبق أيضاً على الرياض التي تنأى بنفسها عن الخطوات تجاه دمشق، بما في ذلك بسبب مخاوف من فقدان الدعم بين الجاليات والمنظمات الإسلامية في مختلف البلدان. ولكن بمجرد أن تتواصل معه أنقرة، الخصم الأكثر ثباتاً للأسد، فقد لا تشعرالسعودية بعد الآن بالقلق من أن التقارب مع سوريا سيقوض موقفها بين المسلمين المعادين للحكومة السورية. فقد اعتبرت السعودية تركيا منافساً لها على النفوذ في العالم الإسلامي وكانت تخشى اتخاذ خطوات تجاه دمشق من شأنها إضعاف مكانتها.

بالإضافة إلى ذلك، ستسمح استعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة باختراق الحصار الاقتصادي طويل الأمد وفتح الحدود. قد تصبح سوريا مرة أخرى أكثر الطرق البرية ملاءمة وأقصر الطرق التي تربط الأناضول بشبه الجزيرة العربية وستتمتع بجميع المزايا اللوجستية. على الرغم من “قانون قيصر” والعقوبات الغربية، فإن سوريا، بفضل وجود حدود مشتركة مع تركيا و “المناطق الرمادية” التي ستبقى فيها جيوب المعارضة لبعض الوقت، ستكون قادرة على توفير واردات “الظل” من البضائع الضرورية التي تمنع العقوبات من الحصول عليها. قد ينطبق هذا حتى على الوقود، الذي تعاني دمشق من نقصه بشكل حاد.

وقد بدأت تظهر بالفعل بعض التحولات الإيجابية في الاتجاه الاقتصادي، كنوع من التقدم على طريق تطبيع العلاقات. لذلك، وفقاً لمراقبين، بدأت الجماعات المتطرفة التي تسيطر على المناطق الشمالية الغربية من سوريا بإزالة بعض الحواجز التي تعيق خطوط النقل بين المناطق الحكومية وجيوب المعارضة. يمكن أن يكون فتح الأبواب الاقتصادية على مصراعيها أحد أهم الأساليب التي قد تدفع دمشق إلى الاقتراب من أنقرة. وهذا يعني أن التفاعل التجاري يمكن أن يوفر الأرضية لـ “ذوبان الجليد” السياسي.

مصالح أنقرة
بعد أن قدم مقترحات لبدء إعادة العلاقات مع سوريا، حقق إردوغان بعض النتائج من خلال سحب الأجندة ذات الصلة من المعارضة، وهو أمر مهم بشكل خاص عشية الانتخابات العامة في البلاد المقرر إجراؤها في 14 أيار 2023. فقد أدرج المعارضون السياسيون لإردوغان بنداً بشأن إعادة العلاقات مع سوريا كأحد وعودهم الانتخابية.

كما يأمل الرئيس التركي بأن يتمكن من خلال بدء حوار مع دمشق من ضمان أمن الحدود دون القيام بعملية عسكرية برية ضد “الكرد السوريين”. من ناحية، بدا أن بدء الهجوم على التشكيلات الكردية أمر شبه حتمي بعد هجوم تشرين الثاني في اسطنبول، لكن هذه الحملة العسكرية ستكون محفوفة بمخاطر كبيرة، بالنظر إلى عدم استعداد حلفاء تركيا السوريين للمشاركة في صراع داخلي.

لذلك، إذا كانت القوات الحكومية نفسها قادرة على بسط سيطرتها الكاملة على مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب/كوباني، ونزع سلاح أو طرد التشكيلات اليسارية الكردية الراديكالية من هناك، فهذا يناسب إردوغان من زاوية إنقاذ أرواح الجنود الأتراك.

إضافة لذلك، تبلغ تكلفة رعاية تركيا لمناطق المعارضة في سوريا نحو ملياري دولار سنوياً. في المقابل، تقول الحكومة إنها أنفقت ما لا يقل عن 40 مليار دولار على أكثر من 3.7 مليون سوري يعيشون في تركيا. وتزعم المعارضة المعارضة أن المبلغ الحقيقي الذي يتم إنفاقه على اللاجئين يمكن أن يكون خمسة أضعاف.

لذلك، فإن قضية تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق ستكون مرتبطة بحل مشكلة اللاجئين السوريين وستبقى قائمة بغض النظر عمن سيصل إلى السلطة بعد الانتخابات. بالإضافة إلى ذلك، فإن مخاوف تركيا من ظهور دولة كردية أخرى مدعومة من الغرب على حدودها تفوق كل المخاوف الأخرى المتعلقة بالتكاليف المحتملة للتقارب مع دمشق. ستسعى أنقرة لحماية نفسها من تهديد اليسار الراديكالي الكردي وإيجاد تفاهم مشترك مع الحكومة السورية.

مصالح موسكو
بالتوازي مع إطلاق عملية أستانة في عام 2017 من قبل روسيا وإيران وتركيا وبداية شراكة تنافسية بين أنقرة وموسكو، دعا الرئيس بوتين إلى الحاجة إلى إيجاد حل وسط بين الرئيسين الأسد وإردوغان.

في الوقت الحالي، وعلى خلفية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فإن إقامة العلاقات السورية التركية والتسوية اللاحقة المحتملة في سوريا مع دمج “الكرد السوريين” وجماعات المعارضة في الهياكل الرسمية السورية لن يقوي فقط مكانة دمشق في الساحة الدولية، بل سيسمح أيضاً لموسكو بتخفيف إستهلاك الموارد العسكرية والاقتصادية.

في الوقت نفسه، إذا ذهب تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة إلى أبعد من ذلك، فستتاح لروسيا الفرصة لتعزيز موقعها في سوريا. يمكن الحديث عن دور الوسيط لموسكو في دمج المعارضة السورية والتشكيلات الكردية في القوات المسلحة السورية، على غرار ما حدث في جنوب سوريا في درعا والقنيطرة، حيث انطلقت عملية المصالحة برعاية روسية في سوريا صيف 2018.

الإجراءات المضادة المحتملة من قبل واشنطن و كرد سوريا والمعارضة
بالنسبة للولايات المتحدة، يعتبر التقارب بين أنقرة ودمشق مسألة حساسة. وترى منى يعقوبيان، كبيرة مستشاري المعهد الأميركي للسلام لشؤون سوريا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن على الولايات المتحدة الآن أن تتوقع تغيير ديناميكيات القوة في الصراع السوري: “هذا يعني تخطيط تركيا وروسيا والدولة السورية للعمل سوياً لطرد القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، فضلاً عن احتمال تصعيد الاشتباكات بين إسرائيل وإيران في سوريا”.

بدورهم، أصدر حلفاء واشنطن في سوريا، على وجه الخصوص القوى الكردية، بياناً يدين المحادثات الثلاثية في موسكو ويدعو جميع “السوريين الأحرار لتوحيد قوى الثورة والمعارضة في مواجهة بائعي دم السوريين على مذبح مصالحهم”.

لا ينبغي تجاهل مثل هذه الدعوات للمعارضة السورية من قبل “الكرد السوريين” للوحدة. على وجه الخصوص ، في آب 2022، أصبح معروفاً أن دول ما يسمى بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش تبذل جهوداً لحرمان المعارضة من دعم أنقرة. مقابل ذلك، وعدت المعارضة بمنحها الفرصة للحفاظ على سيطرتها على المناطق التي تعمل فيها حالياً، ربما باستثناء إدلب. وبحسب بعض التقارير، زُعم أن أعضاء التحالف الدولي اتصلوا بالمعارضة السورية ووجهوا انتباههم إلى أن تركيا تعتزم رفع دعمها من أجل تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية.

ومن الخيارات التي تطرحها المعارضة للولايات المتحدة توحيد المناطق الخاضعة لسيطرة كرد سوريا و”الجيش الوطني السوري”. في الوقت نفسه، ستقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها دعماً واسعاً للمعارضة الجديدة الموحدة مع الكرد السوريين، بما في ذلك للحصول على اعتراف دولي.

نقله إلى العربية: فهيم الصوراني – الميادين نت

اساسيتركياسوريا