يُبدع رئيس الحكومة في لعبته المفضّلة “تدوير الزوايا”، فهو يقول عكس ما يفعل ويفعل عكس ما يقول، على الأقل هذا ما هو شائع عنه. لا ينكر الرجُل ما هو مُشاع عنه، وحتى بعض عارفيه يضعون الأمر في خانة “البراغماتية” المفرطة التي يمارسها، حتى لو أدّت هذه البراغماتية الى وصمه بـ”الكاذب” في بعض الأحيان والمواقف، إلا أنه لا مشكلة لديه طالما أنه يفعل ما تتطلّبه “المصلحة العليا”.
أتى ميقاتي إلى سدّة الرئاسة الثالثة في الزمن الصعب. صعب وطنياً، وحتى صعب سُنّياً. كيف لا، والطائفة تمرّ بمرحلة انتقالية، بين الحريرية السياسية، كوكيل سعودي في لبنان، والتي يبدو أن حاضنتها الأولى في الرياض قد تخلّت عنها “بعنف”، وبين وكيل جديد لم تكتمل ملامحه بعد، بانتظار الانتخابات النيابة العام المقبل، وما ستنتجه من قوى وتوازنات جديدة.
في هذا الهامش بالذات يلعب نجيب ميقاتي اليوم، وهو وإنْ كرّر حزنه على انتهاك السيادة اللبنانية من قبل صهاريج المازوت الإيراني، يعرف في قرارة نفسه أن إدخال المازوت الإيراني من المعابر التي لا تسيطر عليها الدولة وأجهزتها قد وفّر على حكومته إحراجاً لا يستطيع تحمّل تبعاته، خصوصاً وأن مسألة إدخال المازوت لإنقاذ اللبنانيين من مافيات الاحتكار والتخزين، ومن “تهاتيل” السفارات وحصارها، هو قرار “سيادي استراتيجي” لا يُناقش فيه من اتخذه متحدياً الكوكب الأميركي.
المازوت هو السيادة، ميقاتي يعرف هذا، حتى لو استهوته لعبة “مالك الحزين”، وتقمّص الراحل محمود ياسين، في أحد أدوار البؤس التي اشتهر بها في السينما المصرية. يعرف ميقاتي أكثر من ذلك. يعرف أن سوريا قد حفظت سيادة لبنان بقبولها استقبال السفن الإيرانية، وتمرير محتوياتها الى لبنان. سوريا التي يقول ميقاتي إنه لن يزورها إلا بعد استحصاله على إذن المجتمع الدولي. مَن في المجتمع الدولي تحديداً غير السعودية أولاً وعوكر ثانياً؟ الأكيد أن ميقاتي لا يقصد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة.
يعرف ميقاتي أن المجتمع الدولي إيّاه، بأميركاه وسعوديته وفرنساه واتحاده الأوروبي وخليجه، قد أهانوا السيادة اللبنانية مرارًا وتكرارًا، وأساؤوا الى مؤسساته وحكومته وكل ما فيه، عندما أعلنوها صريحة أنهم لا يثقون به، وأنهم سيسلّمون أمره ومصيره والمساعدات جرّاء انفجار المرفأ إلى مجموعات المجتمع المدني السفاراتية. لقد فضّل المجتمع الدولي مجموعات الهواة المرتزقة على الدولة وكيانها وكينونتها، وهذا يعرفه ميقاتي ويحزنه أيضًا… حريّ بميقاتي أن يكون كذلك.
الإيجابي في كلام ميقاتي هو اعترافه بأن “سوريا جارة لبنان”، بعد أن كان أول مَن رمى حجرًا في بئرها مع اندلاع المؤامرة الكبرى التي تعرّضت لها بدءًا من العام 2011، ولعب دور “بطل” تنفيذ قرارات المجتمع الدولي بمقاطعة سوريا ومحاصرتها والعبث بأمنها، عندما قاده حظه العاثر الى رئاسة السرايا بالتزامن مع اندلاع العدوان العالمي على سوريا. حظ ميقاتي العاثر أوصله الى الحكومة في مرحلة عودة المجتمع الدولي الى سوريا، فارتأى الرجُل أن يضع بيضه من جديد في السلة الدولية.
لا يُلام ميقاتي، فهو يحمل إرثًا ثقيلًا فيما حكومته لا تعدو كونها بديلًا احتياطيًا استُدعي من دكّة البدلاء السابقين في الوقت الإضافي الضيّق، وعليه لن يسعفه الوقت في ممارسة مهاراته في المناورة والمراوغة و”المطاحشة”، بانتظار مباراة أخرى قد تُقام بعد الانتخابات، لذلك لا ترجموا ميقاتي.