“أسطورة” بناء الدولة اللبنانية

تُداهِم مسامعنا بين الفَينةِ والأخرى، عبارة “بناء الدولة”، على لسان أقطاب السياسة اللبنانية، والعِبارة، تُستَخدَم في أغلب الأحيان لتَوجيه سهام الخصومة السياسية الداخلية، والتشكيك بالأطراف الأخرى بأنهم لا يريدون بناء الدولة. هذه المادّة مُعتادة داخل نطاق الخصومة بين أطراف السياسة في لبنان، لا بل نلمسها بين الحلفاء أحيانًا، ولو كان من طرف حليف واحد تجاه الآخر، حيث نسمع بين الحين والآخر، وعند كل “مَطَبّ” إشكالي، التشكيك من قبل التيار الوطني الحُر، حليف حزب الله، بأن التفاهم مع الأخير لم يفلح في بناء الدولة. وهنا يكمن بيت القصيد: “بناء الدولة اللبنانية”.

هنا الكلام عن الدولة الحديثة، التي أُنشئ مفهومها في أعقاب مؤتمر وستفاليا عام 1648، والذي عُدَّ طَوب الأساس في بناء شكل النظام الدولي ومسار تواصله.

تَعَدَّدَت تعريفات الدولة، ونحن لسنا في وارد الخَوض فيها أو تبنّيها، لكن يكفي الاشارة إلى أن مفهوم الدولة بحدّ ذاته شكَّلَ صراعًا أيديولوجيًا يُتعامل معه على أساس النظرة إلى وظيفة الدولة ودورها في التشكيل الدولي القائم. وعليه، أصبح مشروع بناء الدولة، كائنًا من كانت تلك الدولة، مشروعًا أيديولوجيًا مُركّبًا، شامِلًا لمعايير الوظيفة والدَّور، وتحديد الأصدقاء والأعداء، والنظرة إلى استراتيجيات المستقبل، وطريقة التعامل مع الدول التي تُهَيمِن على النظام العالمي، وإدارة السياقات التعامُليّة الاقتصادية والتجارية، وغيرها من المجريات السياسية والاجتماعية التي تحكم مضامين التنظيم الدولي في كل مرحلة من المراحل.

الدولة التي تحتوي كيانًا سياسيًا ومجتمعيًا خاصًا، أسَّسَت في الكَينونة اللبنانية لإشكاليّات عميقة حول مضمون ذلك المحتوى وأهدافه الوجوديّة. نحن نتحدّث عن كيانٍ مُصطَنَع وموروث، أوكِلَ لأصحاب الأرض إدارته تحت إشراف القوى الخارجية المُصَنِّعة وفي ظلال خطوطها الحُمْر ومصالحها العُليا. هنا تكمن الورطة، كيف علينا أن نُدير بناء دولة لم تبنِ نفسها بنفسها ولا شاركت في صناعة محتواها الفكري؟ وإلى أي مدى يُتاحُ لنا ذلك أصلًا؟

لا تلتقي النظرة إلى “الدولة” بين كافة مكوّنات المجتمع اللبناني، وهذا ما يمثّل، في الرأي المنطقي، أصل الأزمة الذي يعيشها الكيان اللبناني منذ نشأته، لا بل منذ وطئت أقدام البشر تلك الأرض “المقدّسة”.

ليس ابتكارًا القول أن المجتمع اللبناني متنوّع ومتعدِّد، لكن المُبتَكَر في القول أن هذا التنوّع لا يمكنه العيش في دولة تحمل عقيدة (ليس بمعناها الديني بل السياسي) راديكاليّة تختَصّ بفئة معيّنة، ولا تعمل على حساب جماعة أخرى. ربّما هذا التَعَدُّد يلزِمُ السّاعين الحقيقيّين إلى بناء الدولة لتبنّي خيارات داخلية مركَّبة، يحملها أولو الأمر ويسيرون فيها بين “النقاط” علّهُم يحظون بما لم يحظ به السابقون منهم.

وإن كان من الممكن احتواء الايديولوجيات في قالب مركَّب وبراغماتي، إلا أنه لا يمكن تجميع التشتُّت الهُوياتي القائم. وهنا نحن نتكلّم عن عدم الامكانية نظرًا لطبيعة الدور الوظيفي للدولة اللبنانية، وخصوصًا في الزمن الحديث بعد العملية التقسيميّة التي أجرتها قوى الاستعمار، فأضحَت الهُوية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بنظرة الجماعات لوظيفة لبنان كدولة، والعلاقات مع دول الخارج، في ظلّ وجود فريق لا يزال مستَتبعًا لتلك الدول، وآخر يرى مصلحته لديها.

إشكاليّة الصراع الهُويّاتي يشكّل العائق الأبرز داخل مشروع بناء الدولة اللبنانية الفعّالة، ما أوجَدَ خلافًا بُنيَويًّا حول سبُل تحقيق هذا المشروع وماهيّته. ولعلّ المشكلة الأساسية تكمن في نظرة عدد من التيارات السياسية لمضمون بناء الدولة على أنه عملية تقنيّة، بينما الواقع يبيّن من دون التِباس أن سياق بناء الدولة يطابق أصل الأزمة المنهجية التي تلازمنا منذ ولادة هذا الكيان اللبناني، أي أن المأزق الأساسي والمتكرّر هو المركَّب السياسي العام بصورته الشاملة، وليست المسألة تنبع من غياب مشاريع “تقنيّة” وما شاكل.

حزب الله من ناحيته جسّد نظرته للدولة، من خلال الوثيقة السياسية، والتي أشار فيها إلى مفهومه لبناء الدولة الحقيقية، وأبرز مقوّماتها الجوهرية، التي تتمثّل بالقدرة أولًا للحفاظ على السيادة، ومن ثمّ العدالة في الحكم بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي. وهنا قد يخبرنا أحدهم أن تلك البنود تشكّل مادة بديهيّة أو ربما “إنشائية” بالمعنى اللغوي، إلا أن الصراع الحقيقي يستلقي على أنفاس تلك البديهيات. وهنا نستعيد صراع الهوية من جديد، لنبحث بين الجماعات “المتحاربة” عن مفهوم القدرة وكيفية بنائها، وما هو مضمون السيادة الذي يجب أن نبنيه ونحافظ على قدرته، ونحن نقبع تحت ظل الهيمنة المتهالكة، من دون امتلاك الجرأة على الاعتراف بتهالكها واقتناص الفرص لخلق واقع جديد ننتفض به من تحت الركام وننهض لبناء الدولة. ناهيك عن سمة المنظمة الاقتصادية التي تسيطر على مفاصل الدولة، والنظام الاجتماعي الذي لا يزال يبحث عن هُوية ضائعة منذ عقود.
وفي السياق، لا بدّ من المرور على الواقع الدولي المتحكِّم حاليًا النظام العالمي، حيث هناك كيان امبراطوري يسيطر على “مناهج” الترابط العالمي، ويَستَتبِع خلفه كيانات استعماريّة نَهَبَت بمعيّته مقدّرات النهوض من دول ما يسمّى العالم الثالث، وهذا المُسمّى، على “مأساويّته”، ما هو إلا “تجميل” للحالة اللبنانية، التي تحتوي على تعقيدات أكبر بكثير من تلك المفاهيم المُدرجة اليوم في التشكيل العالمي. وبالتالي، يجب استنباط عملية بناء الدولة من تلك الصورة، لا بالتقَوقُع داخل الـ10452 كم مربعة، وليس بالتعامي عما يحدث خلف الحدود، فنحن صنيعة ما “خلف الحدود” وليس العكس.

بهذه الدائرة المعقَّدة، تُصبح عملية بناء الدولة مشروعًا تحرُّريًا شاملًا، دربُه طويل وشاقّ ومتشعِّب، لا تنفصل إجراءاته عن بعضها البعض. وعليه، من أولى مِمَّن قدّم الآلاف من الشهداء والجرحى في سبيل قيام الدولة وحفاظًا على سيادتها وحمايةً لكياناتها لأن يكون مفتاح مشروع بناء الدولة وراعي مشروعيّته وصمّام أمانه؟ لا ضير أن المستقبل سيجيبنا عن هذا التساؤل، وستنجح التضحيات، محاطةً بالحكمة والوعي، بالاستحصال على الدولة المنشودة، وحينها سيعلم القاصي والداني أن الدولة حَقّ، وأن الحقّ لا يُكتسب، في هذا العالم المتوحّش، إلا بالقوّة والوعي والبصيرة، وهذا معدن المقاومين.

اساسي