الانتخابات “الإسرائيلية”: ما لا يمكن تحقيقه بـ “اليمينية” يمكن تحقيقه بالمزيد منها!

مع الإعلان عن نتائج انتخابات “الكنيست” الأخيرة، تقف “إسرائيل” حاليًا أمام منعطفات تقودها جميعًا إلى مأزق “وجودي” شامل، عكسته تجربة إجراء انتخابات برلمانية هي الخامسة خلال أربع سنوات، في دلالة على تشتت وضياع “الخيارات السياسية” للجمهور “الإسرائيلي”، وغياب عنصر الاستقرار على صعيد “الانتظام السياسي العام” لدولة الاحتلال، من ناحية، إضافة إلى حجم التعقيدات الداخلية التي سوف تواجه الائتلاف اليميني، المؤلف من حزب “الليكود”، وتحالف “الصهيونية الدينية”، والمرشح لتولي الحكومة الجديدة، من ناحية ثانية.

“ضياع الهوية اليهودية” و”انعدام الأمن” أبرز هواجس الناخب “الإسرائيلي”
وفي محاولة شرح خلفيات اقتحام قوى يمينية متطرفة جديدة “المشهد السياسي” في تل أبيب، يُرجع محللون الأمر إلى أسباب غير مباشرة تتصل بطبيعة عنصرية متأصّلة منذ نشأة كيان الاحتلال عام 1948، تجدّد نفسها على الدوام بأسماء حزبية وعناوين سياسية متنوعة، بجوهر عدواني واحد ألفته “إسرائيل” على مدار عهود حكوماتها المختلفة، سواء تلك المحسوبة على تيار اليمين، أو تلك المحسوبة على اليسار. فيما يستذكر آخرون الظروف السياسية خلال مطلع الألفية الجديدة، مع اندلاع انتفاضة الأقصى، النابعة من تضاؤل آمال الفلسطينيين بـ “مسار السلام”، وتوسع النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية بعد “اتفاق أوسلو”، لتتبع خيوط “الموجة اليمينية الصهيونية” معتبرين أن عودة الفلسطينيين إلى الرهان على خيار المقاومة ضد الاحتلال، أفضى إلى تحول الشارع “الإسرائيلي” نحو ترسيخ قناعاته حيال “سردية” التيار الصهيوني المتطرف التي تزعم عدم وجود شريك فلسطيني ملتزم بما يسمى “عملية السلام”، وبالتالي وصول ائتلاف يضم رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، وتحالف “الصهيونية الدينية”، المؤلف من حزبين يمينيين متشددين هما “القوة اليهودية” برئاسة إيتمار بن غفير، و”الصهيونية الدينية” برئاسة بتسلئيل سموتريتش، كأحد أكثر التحالفات الانتخابية تطرفًا في تاريخ الكيان، إلى سدة الحكم، كما هو مرجح حتى الآن.

وفي السياق نفسه، توقفت صحيفة “نيويورك تايمز” عند سبب مباشر لنتائج الانتخابات “الإسرائيلية” الأخيرة، مشيرة إلى “مخاوف مزدوجة” يعاني منها المجتمع الصهيوني، بعد معركة “سيف القدس”، والحرب الأخيرة على غزة، بعضها ذات طابع أمني، وبعضها ذات مضامين “هوياتية”. وتضيف أن تصاعد أعمال المقاومة في الداخل الفلسطيني المحتل، وارتفاع حدة الصدامات بين الفلسطينيين والمستوطنين، لا سيما في مناطق ما يُعرف بـ “الخط الأخضر”، كاللد، وغيرها، العام الماضي، هو أحد أبرز المؤشرات على تلك المخاوف، التي باتت تشكل هاجسًا أمنيًا متناميًا لدى فئة واسعة من المجتمع الصهيوني موضحة أنه عزّز “مشاعر الخوف من ضياع هوية إسرائيل اليهودية” مما شكل عنصر دفع للناخبين “الإسرائيليين” نحو أحزاب اليمين المتطرّف، وفق الصحيفة.

وإذا كانت الانتخابات البرلمانية تحمل الصورة الأكثر وضوحًا بشأن تلك سيطرة المشاعر العدوانية تجاه الفلسطينيين على قطاع واسع من المجتمع “الإسرائيلي”، على الصعيد السياسي، فإن الواقع الأمني يسير في الاتجاه نفسه، حتى في فترة ما قبل الانتخابات، ذلك أن اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية شهدت ارتفاعًا ملحوظًا خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لتسجّل أكثر من 100 اعتداء في فترة قياسية لا تتعدى العشرة أيام من الشهر ذاته، وفق ما أفادت مصادر أمنية “إسرائيلية” لصحيفة “هآرتس”. وأفادت الصحيفة العبريّة بأن تقديرات المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية” تشير إلى أن قادة المستوطنين عمدوا إلى شن مثل هذه الاعتداءات بصورة مقصودة في فترة ما قبل الانتخابات، وذلك بهدف إظهار عجز الجيش في الضفة الغربية، وتوظيف تلك الاعتداءات سواء انتخابيًا، أو أمنيًا من خلال دفع المؤسسة العسكرية في الفترة المقبلة إلى تخصيص المزيد من الحماية للمستوطنات، أو حتى السماح بتشكيل ميليشيات مسلحة جديدة خاصة بتلك المستوطنات. وبحسب التقارير الأممية، فقد سجّلت أعمال العنف التي قام بها مستوطنون ضد الفلسطينيين خلال العام 2021 أعلى معدلاتها السنوية خلال أعوام، حيث تجاوز عددها 410 مقارنة بـ 358 في العام 2020، و335 خلال العام 2019.

من جهته، يذهب موقع “ستراتفور” إلى أن تفجّر الوضع في المناطق المحتلة، في الفترة الواقعة بين عامي 2000-2005، إلى جانب بروز إيران كقوة نووية، أفضيا إلى تنامي نزعة الجمهور “الإسرائيلي” باتجاه اليمينية المتطرفة على مدى الأعوام العشرين الماضية، وهي نزعة جاءت مدفوعة بصعود دور فئة الناخبين الشباب الذين تبلور وعيهم السياسي خلال تلك الأحداث، والذين لديهم ميل لتأييد “الأحزاب الدينية”. واستنادًا إلى أرقام دراسة أجراها “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” في العام 2018، فإن ما نسبته 64 في المئة من “الإسرائيليين”، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 34 عامًا، يؤيدون التيارات الصهيونية اليمينية، مقارنة بما نسبته 47 في المئة لمن تتجاوز أعمارهم 35 عامًا.

وبحسب “نيويورك تايمز”، فإن اشتراك أحزاب عربية للمرة الأولى في تاريخ الدولة العبرية، في ائتلاف “إسرائيلي” حاكم (حكومة بينيت- لابيد) بعد الانتخابات التشريعية الماضية، شكّل عنصر قلق إضافيًا لقواعد التيارات الصهيونية اليمينية، وورقة رابحة ثمينة في يد قياداتها.

ورغم أن سابقة المشاركة العربية في حكومة “إسرائيلية” جاءت كمحاولة لتكريس “براغماتية سياسية”، و”شراكة عربية يهودية أوسع” داخل مجتمع الكيان “الإسرائيلي”، كما روجت الحكومة السابقة، إلا أن تلك المحاولة أفضت إلى مفاعيل عكسية، ودفعت جماهير التيارات اليمينية المتطرفة إلى خيار التصويت العقابي ضد حكومة بينيت-لابيد باعتبار أن تحالفها مع أحزاب عربية يشكل “خيانة للهوية اليهودية لإسرائيل”، على حد تعبير الصحيفة الأميركية.

“الليكود” و”الصهيونية الدينية” في المشهد الانتخابي الأخير: “من الأكثر كُرهًا للعرب؟”
وفي سياق تحليل نتائج الانتخابات “الإسرائيلية”، اعتبرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن الحلف المؤيد لنتنياهو نجح في توظيف توالي الأحداث الأمنية والعمليات الفدائية في المناطق المحتلة لصالحه، حيث أصبحت مهمة “ضبط الأمن”، كما هو الحال في الولايات المتحدة، إحدى أكثر القضايا إشكالية بالنسبة للشارع “الإسرائيلي” خلال الأعوام الأخيرة. ومع أن تصاعد أعمال المقاومة الفلسطينية داخل المدن “الإسرائيلية” يعود إلى عهد حكومة نتنياهو الأخيرة، إلا أن الأخير عرف كيف يلقي باللائمة في ذلك على خصومه السياسيين في “ائتلاف بينيت- لابيد”، إلى جانب ما يُعرف بـ “عرب إسرائيل”. وللدلالة على ذلك، يشرح المحلل “الإسرائيلي” عاموس هارئيل أن الشعارات الانتخابية للحلف الداعم لنتنياهو، والتي نضحت برفض قاطع لمشاركة “القائمة العربية الموحدة” في “الحكومة الائتلافية” السابقة، ووصلت حد التحريض المباشر ضد بعض الشخصيات، راقت لجمهور اليمين الصهيوني، مشدّدًا على أن “كراهية العرب”، والرغبة في إبعادهم عن السلطة” يمكن عدهما أحد أبرز العوامل الحاسمة لعودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة المقبلة. وزاد أن غياب ما يمكن وصفه بـ “المشروع السياسي البديل” من جانب المعسكر المناهض لزعيم “الليكود”، يعد أحد مبرّرات خسارة القوى المحسوبة على الوسط، واليسار، معتبرًا أن الاستقطاب لانتخابي كان متمحورًا إلى حد كبير حول شخصية نتنياهو، وذلك بين من يؤيد عودته إلى السلطة، وبين من يؤيد عرقلة تلك العودة.

وفي معرض استعراض دلالات الحدث “الإسرائيلي”، تلفت تقارير غربية إلى تلاشي ظاهرة ما كان يُعرف بقوى “اليسار الإسرائيلي” معتبرة أن الأحزاب المحسوبة عليه نالت بدورها نصيبها من التصويت العقابي للجمهور، بسبب سعيها خلف علمنة بعض جوانب الحياة العامة للمجتمع اليهودي، على غرار قرار السماح بوسائل النقل العام في يوم السبت، ما عزّز المخاوف من تعرّض “يهودية الدولة الإسرائيلية” للتهديد. وفضلًا عن ذهاب نسبة كبيرة من أوساط تلك القوى لحساب قوى يمينية جديدة، مثل “القوة اليهودية”، و”الصهيونية الدينية”، تشير مصادر غربية متابعة للشأن “الإسرائيلي” إلى أن مكاسب القوى اليمينية الصاعدة لا ترجع إلى تبينها مقاربة عنصرية متشدّدة تجاه العرب، وحسب، بل بسبب معارضتها الواسعة لـ “العلمنة” والقوى العلمانية داخل “إسرائيل” أيضا. ولتعزيز وجهة النظر هذه، أقرّ القيادي في “حزب الليكود” أومري ساعر، بخسارة حزبه، الذي دخل في فترة من الفترات في تحالفات مع قوى من الوسط واليسار، نسبة من أصوات الناخبين لحساب معسكر “الصهيونية الدينية” خلال انتخابات مطلع الشهر الجاري، معتبرًا أن “التصويت لصالح تلك القوى حمل رغبة في التصويت لصالح اتخاذ قرارات أكثر تشدّدًا” من قبل الحكومة التي يتوقع أن يشكّلها نتنياهو.

وأوضح أن دخول ائتلاف بينيت- لابيد خلال العام 2021 في مساومات مع بعض الشخصيات المحسوبة على “القائمة العربية الموحدة”، “دفع بالكثيرين إلى اختيار حزب أكثر تطرفًا من الليكود، لضمان أن تبقى أصواتهم ضمن المعسكر اليميني”، في إشارة إلى شعور أوساط اليمين الصهيوني بالاستفزاز من جراء تلك الخطوة، وخوفهم من سير “الليكود” على المنوال نفسه.

بن غفير: الابن الشرعي لواقع “إسرائيلي” زاخر بالعنف والاحتلال والكراهية
في المقابل، تشير بعض الأوساط الأكاديمية إلى أن البيئة السياسية والأمنية المشار إليها، وفّرت منبرًا إعلاميًا، وتربة سياسية خصبة لصعود نجم بعض التيارات اليمينية الصهيونية، موضحة أن الأداء القوي الذي سجّلته تلك التيارات قام على استثمار عناصر الخوف داخل المجتمع الصهيوني المنادي بـ “دولة يهودية”. وتعتبر أن زعيم حزب “القوة اليهودية” إيتمار بن غفير، وهو أحد أبرز وجوه القوى اليمينية الحليفة لنتنياهو، يشكل مثالًا واضحًا على هذا الصعيد، كونه بنى برنامجه الانتخابي على وعود ترحيل “أي شخص يعمل ضد دولة إسرائيل” (في إشارة إلى عمليات المقاومة لعرب الداخل الفلسطيني المحتل)، إضافة إلى تعهده بإنهاء ما يسميه “النفوذ العربي في الحكومة” (في إشارة إلى دور تحالف القائمة الموحدة في الحكومة السابقة)، فضلًا عن “تعزيز الهوية اليهودية لدولة إسرائيل”، وتوسيع صلاحيات الجيش في قتل الفلسطينيين. وبينما يعيب البعض على بن غفير خطاباته وسلوكياته العدوانية، كتمجيده بمنفذ مجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل في العام 1994، الإرهابي باروخ غولدشتاين، إضافة إلى عنصريته المعروفة تجاه العرب، يرى فيه مناصروه الشخصية “الأقدر على فهم هواجسهم وطرح الحلول لها”، و”قائدًا قويًا محتملًا قد ينجح في إعادة الانتظام (الأمني)” إلى حياتهم. في هذا الإطار، رأى مدير برنامج الشرق الأوسط، بمعهد هربرت سي كيلمان، عوفر زالسبيرغ، أن صعود “القوة اليهودية” بزعامة بن غفير، جاء مدفوعًا بصورة جزئية من “شعور متزايد من القلق على السلامة العامة” في أوساط الصهاينة على وقع تنامي العمليات الفلسطينية في العمق “الإسرائيلي”، إضافة إلى إحساس هؤلاء بأن “الكرامة اليهودية قد أُهينت بسبب وجود حزب عربي في ائتلاف (بينيت- لابيد)”. بدوره، اعتبر أستاذ العلوم السياسية، شلومو أفينيري، أن صعود الحركات اليمينية المتطرفة في “إسرائيل” يأتي في ظل موجة يمينية متطرفة يشهدها العالم، على غرار الولايات المتحدة وإيطاليا والدول الاسكندنافية.

وعلى الصعيد نفسه، شدّدت صحيفة “هآرتس” العبريّة على أن الانتخابات الأخيرة تكشف عن مزايا خاصة لـ “اليمين الإسرائيلي”، مشيرة إلى أن بروز شخصيات من أمثال بن غفير، داخل الائتلاف الحكومي العتيد، بزعامة نتنياهو، هو نتاج 55 عامًا من احتلال الضفة الغربية، موضحة أن الأخير “لم يظهر من العدم، بل هو الابن الشرعي لواقع زاخر بالعنف، والقهر، يشوبه التحريض واحتلال أراضي الغير بالقوة”.

اساسياسرائيل