يتحدّى البعض نفسه في احتراف التفاهة، وكي يضيف على المعهود منها لمسته الخاصّة، يبالغ في التغابي فيدرك الغباء الصّرف، ويجاهر في استغباء الناس فيصير محطّ نكاتهم، وربّما شتائمهم، في السرّ وفي العلن.
وإن كانت المؤسّسة اللبنانية للإرسال تتمادى في التضليل الإعلامي المدفوع سلفًا وفي الاستخفاف بعقول الجمهور لأسباب تمويلية مغلّفة بغطاء “الخطّ السياسيّ”، فلا شكّ أنّ شلّة المحامين المطعّمة بصحفيّ أجير قرّرت احتراف الإتجار “بالغباء” وخوض المعارك الوهمية، الفاشلة مسبقًا، ككلّ ما حاولت ارتكابه سابقًا.
أهلًا بكم في أحد أتفه ما قد تقع عليه أعينكم من “ادعاءات” و”إخبارات”، بانتظار أن تتفوّق هذه الحالة الثورجيّة على نفسها مرة جديدة وتدهشنا بما هو أغبى وأحقر.
في الوقائع، تقدّم من يسمّون بمحامي المرصد الشعبي (ولا يعلم أحد أي “شعب” يقصدون وما الذي يقومون برصده بالضبط) وهم علي عباس، واصف الحركة، جاد طعمة، ومهنتهم المعلنة المحاماة، بالإضافة إلى ادمون ساسين، العامل في الصحافة، بإخبار لدى النائب العام التمييزي. موضوع الإخبار هو “تهريب كميات هائلة من المازوت عبر معابر غير شرعية وبيعها في محطات الأمانة بسعر أقل من السعر الرسمي”.
في التفاصيل، حين حاولت أميركا، ربّ هؤلاء ومَن مثلهم، أن تخنق اللبنانيين بالمازوت، اعتلى سيّد حرّ ثوريّ منبر المواجهة، وأعلن عن استيراد كميات من المازوت الإيراني، عبر سوريا، منعًا لإحراج السلطات اللبنانية التي لا تقوى على حمل موقف كهذا، فهو موقف جلل ويحتاج أكتافًا عظيمة تحمله، ورجالًا. أمام العالم كلّه، بكلّ أقطابه ومحاوره وناسه وإعلامه وأقماره الاصطناعية وأبراج المراقبة فيه، أمام عين المشغّلين من أعلى هرمهم إلى أدناه، وأمام عين الأدوات من أعلاهم رتبة إلى أحقرهم، وقف سيّد حرّ ووجّه كلامه إلى كبيرهم الذي يستخدمهم في كلّ أعماله القذرة، إلى آمر الأساطيل التي تنهب العالم وقال إنّ المازوت الإيراني آت إلينا، وإنّ البواخر أرض لبنانية.
برفعة أصبع، لم يجرؤ كبير أو صغير على مواصلة التحدّي. هرعت سيّدتهم شيّا آنذاك إلى توزيع الكمامات لإيهامهم بتوازن ما بين ما تقدمه الجمهورية الإسلامية للبنان رغمًا عن الحصار وقيصر، ولشدّة رخصهم صدّقوا الوهم وبعضهم نظّر له ولم يخجل!
حين وصلت طلائع الشاحنات المحملة بالمازوت عبر سوريا، اصطفّت وسائل الإعلام العالمية لتغطية التحدّي، لتوثيق لحظة أثبت فيها حزب الله مرّة جديدة أنّ الأميركي أجبن من أن يخوض حربًا، وأنه أعجز من أن يواجه أحرارًا إذا قالوا فعلوا. دخل المازوت “الأرخص من السعر الرسمي” وبيع في محطات الأمانة، وغفل المدّعون في إخبارهم عن ذكر توزيعه مجانًا أمام عين الأميركي. فالمجانيّ يتحدّى الأميركيّ أكثر، ويوجعه ويفضحه أكثر.
في تلك الفترة، تمّت تدفئة دور العجزة مجانًا، وأعيدت الحياة إلى أجهزة المستشفيات، واشتعلت “الصوبيات” في القرى والمناطق النائية، وكلّ ذلك على مرأى الغيظ العوكري الممتدّ حكمًا إلى واشنطن، والمسكوب تقريعًا على رؤوس الأدوات الفاشلة التي أعلى ما بخيلها “إخبار”.
المضحك في الأمر أن الجامع بين المخبرين هو “الثورجية”.. يا خجل الثورات حول العالم من أن يكنّى بمثيل اسمها أشخاص وجماعات تمارس الانبطاح علنًا وتدعوه ثورة، وتحسب الالتزام بما يسمح به الأميركي وأذنابه عملًا ثوريًا.
وإذا تجاوزنا عن ذلك كلّه، لا يمكن للمرء أن يتجاوز عن كميّة الغباء التي يستثمرها أحد ما في لعب دور المخبر عن حدث مشهود عالميًا، والتي يحتاجها العاطل عن الشرف كي يبلغ “رسميًا” عن عمل ثوريّ ارتفعت له قبّعة كل أشراف الأرض وأرّق مضاجع كل حقرائها، والتي يستخدمها السافل المكشوف في حديثه باسم الفقراء حين يقدّم إخبارًا ضدّ بيع المازوت بسعر يقلّ عن السّعر الذي يعجز عنه الفقراء.
لم ينكشف هؤلاء وأمثالهم اليوم طبعًا، فرائحتهم فوّاحة من قبل أن تصير لهم أسماء يذكرها الإعلام وتواقيع على الأوراق الرسمية، إلا أن ما فعلوه اليوم كان مناسبة جيّدة أو قل مدخلًا جيّدًا لأمثولة أخلاقية نحكيها لأولادنا قبل النوم: هكذا تكون قلّة الشرف، فاجتنبوها.