دمشق بين العروبة والعقائد

مضر الشيخ إبراهيم |

مهما اختلفت العناوين تفسيرًا لمعنى دمشق لغويًا فإن المتفق عليه هو دورها الحيوي والوظيفي تجاه هويتها العربية وروافدها في العقائد والأفكار، لا سيما وهي في قلب وادي اللاهوت.

وهذا الدور قائم على أوابد وحضارات وشعوب ما برحت تقدم للتراث الانساني مختلف أنواع الإضافات. هي ثقالة حضارية وإن كانت الليالي فيها حالكة أو باسمة؛ ولكن بثوابتها العقدية والدينية، على الرغم من مرارة هذه الوقائع على المتلقي المتطرف بالتحرر من تلك التي يسميها قيود عقدية، (يوحنا المعمدان والنبي زكريا ومقام السيدة زينب ورقية والمعابد في الجنوب السوري ومعلولا صيدنايا ومقامات بني هاشم في الساحل وجبل زين العابدين في حماة وجبل الشيخ عبد العزيز في الجزيرة السورية وتكايا عامودا ودير الزور والكثير الكثير مما يقدسه السوري على امتداد جغرافيته المتعبة)، اليوم بفعل حرب طاحنة لمحوا دور دمشق الوظيفي بوصفها قلعة للعروبة وأمانًا لمقاومين لا ينامون إلا في ظلالها ملأى الجفون بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت بفعل المتآمر والمطبع وتجار المواقف.

وهذا الدور الذي حفظ لدمشق حدث بآلاف الشهداء ذوي العقائد، بدءًا من جيش عربي سوري، وكتائب البعث والدفاع لهم عقيدة راسخة تجاه ترابهم المقدس وأبناء وطنهم، إلى شباب عقيدتهم ضمنت لهم وفق مرجعياتهم بلفظ الشهادة وما سمي بجهاد الوثبة، ومعهم من دخل الحرب متحمسًا للدفاع عن مراقد مقدسة، ونسور دافعوا عن سورية الطبيعية، وحرس دافعوا عن قلب العروبة النابض.

وربما نغفل عن ذكر ذوي تضحية ونضال ودماء، وتعمدت كل تلك الدماء حتى مع الأرثوذكسي الذي يدافع عن أسوار موسكو من المياه الدافئة، وقد فلحوا كل تلك المجاميع الصادقة في الحفاظ على دمشق ودورها الاستراتيجي تجاه محافل وأطر لا تمنح سوى خيارين: إما معها أو ضدها، والخيار الثاني مكلف وباهظ، ولكن قاومت العين المخرز.

نعم، ما حققته دمشق لن تُعلَم نتائجه إلا بُعيد سنوات، سينصفها المخلص الصادق. ولكن لا بد أن يعلم القاصي والداني من هو في الداخل أو الخارج أن كل هذه الدماء وهذا العناء قُدِّمَ للحفاظ على العنوان الشامخ لدمشق العروبة، والتنوع العقدي، وأي طرح آخر نتج عن ردة فعل وحماس تجاه نبذ العروبة أو الفرار من الديانات تجاه تحرر من روافد العدم، يؤدي إلى ضياع الهوية واضمحلال القيم السامية للعقائد، إلا إذا اعتبرنا بكل سطحية وسذاجة أنَّ من كان وراء عزل دمشق عن جامعة الدول العربية ومن تهاوش على الصيد هم اختزال للعروبة أو المحيسني وزهران علوش والجولاني هم اختزال للإسلام، وأن أمريكا المحتل الغازي لأرضنا وقواعدها هي اختزال للدين المسيحي.

واليوم في دمشق كل المؤسسات الحكومية واجبها بناءُ المواطنة الإيجابية للأفراد تجاه بعضهم بعضًا وبناء ذاكرة جمعية جديدة منطقية ودينية تتوحد تجاه أن التنوع غنى وألا فرقَ بين من هم نظائر في الخلق وفي الدين ذاته.

وعلى الدولة ومؤسساتها المواكبة لمنع التطرف وضبط الحالات المتفلتة، وهذا ديدن المفسدين في الأديان وبناء السلبية في الأداء والسلوك.

بلادنا الشامخة هذه العصية على الخنوع مرَّ عليها الكثير من الغزوات والحروب والحصار وكل مفردات الأذى، وهذا بحث يطول، وبقيت شامخة وعصية على الزوال واستمرت بالعطاء والوجود؛ لكن منذ عدة عقود كل مصائبها وويلاتها من سرطان جاثم على قلب هذه الأمة يمنع تطورها ويحارب تقدمها ويبث الفتن وأدواته كثيرة.

كل نهوض لبلداننا وشفاء عللنا سيبقى منقوصًا إلا بانتهاء هذا السرطان المحتل لفلسطين والجولان ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وغير ذلك سيستمر اللعب على الوتر الديني والطائفي والمناطقي والقبائلي، وسمِّ ما شئت من لواقح الفتن، ويرونه بعيدًا ونراه أقرب من أي وقت، وهذا للخلاص الجماعي أما الخلاص الفردي فهو ضيق أفق وأنانية ولا يجدي لبناء الأمم نفعًا.

اساسيدمشقسورياسورية